فهو رسولٌ إلى النَّاس كافَّة ، وليس إلى قَوْمه فقط مثلما كان الأنبياء قبله .
يقول
الله تعالى مخاطبًا نبيَّه محمَّدًا صلّى الله عليه وسلَّم : { قُلْ يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ
مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ
فَآمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ
بِالله وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ 158 } (7-
الأعراف 158) .
لهذا ، لم يقتصر النّبيّ صلّى الله عليه وسلَّم على دعوة قُريش فقط إلى الإسلام ، بل دعا اليهُود أيضًا والمسيحيّين ، وأرسل رُسُلَه إلى ملُوك الفُرس والرُّوم وبقيَّة العَرب .
وكان
اليهودُ يسكُنون المدينة التي هاجر إليها النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلَّم
مع أصحابه . وذلك أنَّ أجدادَهم من الأحبار كانُوا يقرأون في كُتُبهم عن قُرب ظُهور نبيٍّ يُبعَثُ في المدينة . فجاء بعضُهم إليها واستقرُّوا بها ظانّين أنَّ هذا النَّبيَّ سيكون واحدًا من بينهم، فيكونُون أوَّل مَنْ يَتَّبعُه .
فلمَّا بُعثَ محمَّدٌ نبيّا عربيّا من سُلالة إسماعيل بن إبراهيم ، وليس يهوديّا من سلالة إسحاق بن إبراهيم عليهم السَّلام جميعًا ، تَملَّكَتْهُم الغيرة والحسد ، فكَفرُوا بمحمّد وكادُوا له المكائد !
فقد
روى ابن إسحاق في كتابه السّيرة النَّبويَّة ، قال : حدَّثَني عاصم بن عمر
بن قتادة عن رجال من قومه ، قالُوا : إنَّ ممّا دعانَا إلى الإسلام ، مع
رحمة الله تعالى وهُداه ، ما كُنَّا نسمعُ من رجال يَهُود . كُنَّا أهل
شرْك ، أصحاب أوْثان ، وكانُوا أهل كتاب ، عنْدَهم علْمٌ ليْسَ لنا .
وكانتْ لا تزالُ بيننا وبينهم شُرور ، فإذَا نلْنَا منهم بعضَ ما يَكْرهون
قالُوا لنا : إنَّه تَقاربَ زمانُ نَبيٍّ يُبْعثُ الآن ، نُقاتلُكم معه
قتْلَ عاد وإرَم . فكُنَّا كثيرًا ما نسمعُ ذلكَ منهم .
فلمَّا
بَعثَ اللهُ رسولَه محمَّدًا صلّى الله عليه وسلَّم ، أجَبْنَاه حينَ
دَعانا إلى الله تعالى ، وعرَفْنا ما كانُوا يَتَوَعَّدونَنا به ،
فبَادَرْنَاهم إليه ، فآمَنَّا به ، وكفَرُوا !
ففينَا وفيهم نزلتْ
هذه الآية : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ الله مُصَدِّقٌ
لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ
كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ الله
عَلَى الْكَافِرِينَ 89 } (2- البقرة 89) .
وروى
الحاكم في مُستدركه عن ابن عبَّاس رضي الله عنه ، قالَ : كانت يَهودُ
خَيْبَر تُقاتلُ غَطَفان ، فكُلَّما الْتَقَوْا هُزمَتْ يَهُود خَيْبَر .
فعَاذت اليهودُ بهذا الدُّعاء : اللّهمَّ إنَّا نسْألُكَ بحَقّ محمَّد
النَّبيّ الأُمّي الذي وَعَدْتَنا أن تُخْرجَه لَنَا في آخر الزَّمان ،
إلاَّ نَصَرْتَنَا عليهم .
فكانُوا إذا الْتَقَوْا دَعَوْا بهذا
الدُّعاء ، فهَزَمُوا غَطفان . فلمَّا بُعثَ النَّبيُّ صلّى الله عليه
وسلَّم ، كفَرُوا به، فأنزلَ الله : وقد كانُوا يَستَفتحون بك يا محمّد على
الكافرين (انظر الآية 89 من سورة البقرة التي ذكَرْناها سابقا) .
(المستدرك على الصّحيحين - الجزء 2 - ص 289 - رقم الحديث 3042) .
وكان أحبارُ اليهود يأتون إلى النّبيّ محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم ، لا ليَسْألوه عن الإسلام ، وإنَّما ليُحاولُوا أن يَلْبسُوا عليه الحقَّ بالباطل ! فكان القرآنُ يَنزلُ ليَفضحُهم .
قال
ابنُ إسحاق في كتابه السّيرة النَّبويَّة : مثال ذلك أنَّ كعْب بن أسد ،
وابن صلُوبا ، وعبد الله بن صُوري ، وشاس بن قيس ، اجْتمعُوا يومًا فقالُوا
: لِنَذْهبْ إلى محمَّد لَعلَّنا نَفْتنه عن دينه ، فإنَّما هو بَشَر .
فأتَوْه فقالُوا : يا محمَّد ، إنَّك قد عرفْتَ أنَّنا أحبارُ يَهود
وأشرافُهم وساداتُهم ، وإنَّا إن اتَّبعْناكَ اتَّبَعتْكَ يَهود ولم
يُخالفُونا ، وإنَّ بيْنَنا وبينَ بعض قَوْمنا خُصُومة ، أفَنُحاكمُهم إليك
فتَقْضي لنا عليهم، ونؤمنُ بك ونُصدّقك ؟ فأبَى رسولُ الله عليهم ذلك ، وأنزلَ
الله تعالى فيهم : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله وَلا
تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا
أَنْزَلَ الله إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ الله
أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ
لَفَاسِقُونَ 49 أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ
مِنَ الله حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ 50 } (5- المائدة 49-50) .
وفي
حادثة أخرى : روى ابنُ إسحاق أيضًا في كتابه السّيرة النَّبويَّة ، قال :
أتَى رافع بن حارثة ، وسلاَّم بن مشْكَم ، ومالك بن الصَّيف ، ورافع بن
حُرَيْملة ، النَّبيَّ محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم ، فقالُوا : يا
محمَّد ، ألسْتَ تزعُم أنَّكَ على ملَّة إبراهيمَ ودينه ، وتُؤمنُ بما
عندَنا من التَّوراة وتشْهَدُ أنَّها من الله حقٌّ ؟
قال : بلَى ،
ولكنَّكُم أحْدَثْتُم وجحَدْتُم ما فيها مِمَّا أخذَ الله عليكم من الميثاق
، وكتَمْتُم منها ما أُمرْتُم أن تُبَيّنُوه للنَّاس فبَرئْتُ من
إحْداثكُم . قالُوا : فإنَّا نأخُذُ بما في أيْدينا ، فإنَّا على الهدى
والحقّ ، ولا نُؤمنُ بكَ ولا نتَّبعُك ! فأنزلَ
الله تعالى فيهم : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ
حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ
مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ
مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ
الْكَافِرِينَ 68 } (5- المائدة 68) .
وروى
ابنُ إسحاق أيضًا في كتابه السّيرة النَّبويَّة عن أبي هُرَيْرة رضي الله
عنه، أنَّ أحبارَ يَهود اجْتَمعُوا في بيْت المدْراس حين قدم محمَّدٌ صلّى
الله عليه وسلَّم المدينة، وقد زنَى رجلٌ منهم بعد إحْصانه بامرأة من يَهود
قد أُحصنَت ، فقالُوا : ابْعَثُوا بهذَا الرَّجُل وهذه المرأة إلى محمَّد ،
فسَلُوه كيفَ الحكْمُ فيهما ، ووَلُّوه الحكْمَ عليهما ، فإن عملَ فيهما
بعَمَلكم من التَّجْبيَة (وهي أن يُجْلَدَا بحَبْل ، ثمَّ تُسَوَّد
وُجُوههما ، ثمَّ يُحْمَلان على حمارَيْن ، وتُجعَل وُجُوههما من قِبَل
أدْبار الحمارَيْن) فاتَّبعُوه ، فإنَّما هو مَلكٌ وصَدّقُوه ، وإن هو حكَم
فيهما بالرَّجْم ، فإنَّه نبيٌّ فاحذَروه على ما في أيْديكم أن
يَسْلُبْكُموه !
فأتَوْه
، فقالُوا : يا محمَّد ، هذا رجلٌ قد زنَى بعد إحصانه بامرأة قد أُحْصنتْ ،
فاحكُم فيهما فقد وَلَّيْناك الحكْمَ فيهما . فمشَى رسولُ الله حتَّى أتى
أحْبارَهم في بيْت المدْراس وقالَ : يا معْشر يَهود ، أخْرِجُوا إليَّ
عُلَماءكُم . فأخْرجُوا له عبْدَ الله بن صوريا ، وكان غلامًا شابّا من
أحْدَثهم سنّا ، وقالُوا : هذا أعْلَمُ مَنْ بَقيَ بالتَّوراة .
فخَلاَ
به رسولُ الله صلّى الله عليه وسلَّم وألَحَّ عليه السُّؤال ، يقول له :
يا ابنَ صُوريا ، أنْشدُكُم الله وأُذَكّرُكُم بأيَّامه عند بَني إسرائيل ،
هل تعلَمُ أنَّ الله حكمَ في التَّوراة في مَنْ زنَى بعْد إحْصانه :
بالرَّجْم؟ قال : اللّهمَّ نعَم ، أمَا والله يا أبا القاسم إنَّهم لَيَعْرفُون أنَّكَ نَبيٌّ مُرْسَل ، ولكنَّهم يَحْسُدُونك !
فخرج
رسولُ الله صلّى الله عليه وسلَّم ، وأمرَ بهما (أي بالرَّجل والمرأة)
فرُجمَا عند باب مسْجده في بَني غنم بن مالك بن النَّجَّار . ثمَّ كَفَر
ابنُ صُوريا بعد ذلكَ !
وروى
ابنُ إسحاق أيضًا في كتابه السّيرة النّبويَّة عن صفيَّة بنْت حُيَيّ بن
أخطَب ، وكانت يهوديَّة ثمَّ أسلَمتْ وتزوَّجها النَّبيُّ محمّد صلّى الله
عليه وسلَّم ، قالتْ : كنتُ أَحَبَّ وَلَد أبي إليه وإلى عمّي أبي ياسر ،
لم ألْقَهُما قَطُّ مع وَلَد لَهُما إلاَّ أخَذَاني دُونَه . فلمَّا قدم
رسولُ الله صلّى الله عليه وسلَّم المدينةَ ونزلَ بقُبَاء في بَني عَمْرو
بن عَوْف ، غَدَا عليه أبي حُيَيّ وعمّي أبو ياسر ، فلم يَرْجعَا إلاَّ مع
غروب الشَّمس .
فأتَيَا
يَمْشيَان الهُوَيْنَى ، فهششْتُ إليهما كما كنتُ أصنع ، فوَالله ما
التَفَتَ إليَّ واحدٌ منهما ، لِمَا بهما من الغَمّ . وسمعتُ عمّي أبا ياسر
يقول لأبي : أَهُوَ هُوَ ؟ قال : نعَم والله ! قال : أتَعْرفُه وتُثْبتُه ؟ قال : نعَم ، قال : فمَا في نَفْسكَ منه ؟ قال : عداوَته واللهِ ما بَقيتُ !
هكذا
إذًا كان حالُ النَّبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلَّم مع اليهود : هم
كانُوا يعرفُون أنَّه نبيّ آخر الزَّمان الذي يجدون صفاته في التَّوراة ،
لكنَّهم حَسَدوه لأنَّه لم يأتِ منهم ، وأصرُّوا على الكُفر به وعَداوته ، وهو لم ينفكَّ يَدعوهم إلى الإسلام ، لأنَّه كان يعلم أنَّهم إذا ماتُوا على غير ذلك فسوف يكون مصيرهم إلى جهنَّم خالدين فيها .
وقد
روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هُرَيْرة رضي الله عنه ، أنَّ رسول الله
صلّى الله عليه وسلَّم قال : والذي نَفس محمّد بيَده ، لا يَسْمع بي أحدٌ
من هذه الأمَّة ، يهودي ولا نصراني ، ثمَّ يموتُ ولم يُؤْمنْ بالذي
أُرْسلْتُ به ، إلاَّ كان من أصحاب النَّار . (صحيح مسلم - الجزء 1 - ص 134
- رقم الحديث 153) .