نعم ، وسنأخذ ثلاثة أمثلة :
المثال الأوَّل في إسلام عبد الله بن سَلام ، وكان حَبْرًا عالما من أحْبار اليَهود : روى
ابنُ حبَّان في صحيحه عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه ، قال : انطلقَ
النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم وأنا معه حتَّى دخَلْنا كَنيسة اليَهود
بالمدينة يومَ عيدهم ، وكَرهُوا دخُولَنا عليهم . فقال لهم رسولُ الله صلّى
الله عليه وسلّم : يا معشَر اليَهود ، أرُوني اثْنَيْ عَشَر رجُلاً
يَشْهدُ أن لا إلَه إلاَّ الله وأنّي رسولُ الله ، يَحُطُّ الله عن كلّ
يهودي تحت أديم السَّماء الغضبَ الذي غضبَ عليه . فأَمْسَكُوا ، وما أجابهُ
منهم أحَد . ثمَّ ردَّ عليهم فلَم يُجبْهُ أحَد ، ثمَّ ثَلّثَ فلَم
يُجبْهُ أحَد .
فقال
: أبَيْتُم ، فَوَالله إنّي لأنا الحاشر وأنا العاقب وأنا النَّبيُّ
المقفّى (وفي رواية للحاكم في مستدركه : وأنا النَّبيُّ المصطَفَى) ،
آمَنْتُم أو كذَّبتُم .
ثمَّ
انصرفَ وأنا معه حتَّى دنَا أن يَخرج ، فإذا رجلٌ من خَلْفنا يقول : كما
أنتَ يا محمَّد ، ثمَّ قال : أيُّ رجُل تعلَمُوني فيكُم يا معْشَر اليَهُود
؟ قالُوا : ما نعلَمُ أنَّه كان فينَا رجلٌ أعْلَم بكتاب الله ولا أفْقَه
منكَ ، ولا من أبيكَ من قَبْلك ، ولا من جدّكَ قبل أبيك . قال : فإنّي
أشهدُ له بالله أنَّه نَبيُّ الله الذي تَجدُونه في التَّوراة . قالُوا :
كذبْتَ ، ثمَّ رَدُّوا عليه وقالُوا له شَرّا ! فقال رسولُ الله : كذبْتُم ،
لَن يقْبَل قَوْلكُم ، أمَّا آنفًا فتُثْنُون عليه من الخيْر ما
أثْنَيْتُم ، وأمَّا إذا آمنَ كذَّبْتُموه وقُلْتُم ما قُلْتُم ؟! فلَن
يقْبَل قَوْلكُم .
قال عوف : فخَرجْنَا ونحنُ ثلاثة : رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم ، وأنَا ، وعبدُ الله بن سَلام . فأنزلَ الله فيه :
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ
وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ
وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ 10 }
(46- الأحقاف 10) . (صحيح ابن حبّان - الجزء 16 - ص 118 - رقم الحديث 7162) .
وقد
روى الإمام البخاري في صحيحه عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه ، قال : ما
سَمعْتُ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم يقولُ لأحَد يَمْشي على الأرض
إنَّه من أهْل الجنَّة ، إلاَّ لعَبْد الله بن سلام . (الجامع الصّحيح
المختصر - الجزء 3 - ص 1387 - رقم الحديث 3601) .
المثال الثّاني في إسلام يهودي آخر اسمُه زَيْد بن سعْنة : روى
ابنُ حبّان في صحيحه عن زَيْد بن سعْنة رضي الله عنه ، قال : لَمْ يَبْقَ
من علامَات النُّبوَّة شيءٌ إلاَّ وقد عرفْتُها في وَجْه محمّد صلّى الله
عليه وسلّم حينَ نظرتُ إليه ، إلاَّ اثْنَتَيْن لم أخْبرهُما منه : يَسْبقُ
حِلْمُه جهْلَه (أي غَضَبَه) ، ولا يزيدُه شدَّةُ الجهْل عليه إلاَّ
حِلْمًا . فكنتُ أتَلَطَّفُ له لأن (أي لكي) أُخالطَه فأعرف حِلْمَه
وجهْلَه .
(فذكَر
زيد قصَّة إقراضه للنَّبيّ مالاً) ، ثمّ قال : فلَمَّا كان قبلَ محَلّ
الأجل بيَومين أو ثلاثة ، خرج رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم في جنازة
رجُل من الأنصار ومعه أبو بكر وعمر وعثمان ونَفَر من أصحابه . فلَمَّا
صَلَّى على الجنازة ، دَنَا من جدار فجلسَ إليه . فأخذتُ بمجامع قَميصه ،
ونظرتُ إليه بوَجْه غَليظ ، ثمّ قلتُ : ألا تَقْضني يا محمّد حقّي ؟!
فوَالله ما عَلمْتُكُم بَني عبد المطَّلب بمُطَل ، ولقد كان لي
بمُخالَطتكُم عِلْم .
ونظرتُ
إلى عُمر بن الخطَّاب وعَيْناه تَدُوران في وَجْهه كالفُلْك المستدير ،
ثمَّ رماني ببَصَره وقال : أي عدُوَّ الله ، أتقُولُ لرسول الله صلّى الله
عليه وسلّم ما أسمعُ ، وتفعلُ به ما أرى ؟! فَوَالذي بَعثَه بالحقّ لولا ما
أحاذرُ فوته (أو لَوْمَه) ، لَضَربْتُ بسَيْفي هذا عُنقَك ! ورسولُ الله
صلّى الله عليه وسلّم يَنْظُر إلى عُمَر في سُكُون وتُؤَدَة ، ثمَّ قال : إنَّا كُنَّا أحْوَجَ إلى غيْر هذا منكَ يا عُمر : أن تأمُرَني بحُسْن الأداء ، وتأمُرَه بحُسْن التّباعة (أو الطَّلَب) ! اذْهَبْ به يا عُمر ، فاقْضه حَقَّه وزدْهُ عشْرين صاعًا من غَيْره مكانَ ما رُعْتَه !
قال
زيد : فذهبَ بي عُمَر ، فقضَاني حقّي وزادَني عشرينَ صاعًا من تَمْر .
فقلتُ : ما هذه الزّيادة ؟ قال : أمَرني رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم
أن أَزيدَكَ مكانَ ما رُعْتُك . فقلتُ : أَتَعْرفُني يا عُمر ؟ قال : لا ،
فَمَنْ أنت ؟ قلتُ : أنا زيد بن سعنة ، قال : الحَبْر ؟! قلتُ : نعم ،
الحَبْر ، قالَ : فَمَا دعاكَ أن تقولَ لرسُول الله صلّى الله عليه وسلَّم
ما قُلْت وتَفعل به ما فعَلْت ؟! فقلتُ : يا عُمر ، كلُّ علامات
النُّبُوَّة قد عرَفْتُها في وَجْه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حينَ
نَظَرتُ إليه ، إلاَّ اثْنَتَيْن لَم أخْتَبرْهما منه : يَسْبق حِلْمُهُ
جَهْلَه ، ولا يَزيدُه شدَّةُ الجهل عليه إلاَّ حِلْمًا ، فقد
اخْتَبَرْتُهما ، فأُشْهدُكَ يا عُمر أنّي قد رضيتُ بالله ربّا وبالإسلام
دينًا وبمحمَّد صلّى الله عليه وسلّم نَبيّا ، وأُشْهدُكَ أنَّ شَطْرَ مالي
، فإنّي أكثرها مالاً ، صدقة على أُمَّة محمَّد صلّى الله عليه وسلّم .
فقال عُمر : أو على بَعضهم فإنَّكَ لا تَسَعُهم كلُّهم ، قلتُ : أو على
بعضهم .
فرجعَ
عُمر وزيد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فقال زيد : أشهدُ أن لا
إله إلاَّ الله وأنَّ محمَّدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وسلّم . (صحيح
ابن حبّان - الجزء 1 - ص 521 - رقم الحديث 288) .
المثال الثَّالث في إسلام مسيحي اسمُه سَلْمان الفارسي :
روى ابنُ إسحاق في كتابه السّيرة النَّبويَّة عن سلْمان الفارسي رضي الله
عنه ، قال : كنتُ رجلاً فارسيّا من أهْل أصْبهان (وتُسمَّى اليوم أصْفهان ،
وهي مدينة في إيران) ، من أهل قرْيَة يُقال لها جَيّ . وكان أبي دهقان
قرْيَته (أي شَيْخَها) ، وكنتُ أحَبَّ خَلْق الله إليه ، لم يَزَلْ به
حُبُّه إيَّايَ حتَّى حَبَسَني في بيْته كما تُحْبَسُ الجارية .
واجْتهَدْتُ في المجوسيَّة (والمجوس هم الذين يُقدّسُون النَّار) حتَّى
كنتُ قَطنَ النَّار (أي خادمَها) الذي يُوقدُها ، لا يَتْركُها تَخْبُو
ساعة (أي لا يتركُها تَنْطَفئُ أبدًا) .
وكانتْ
لأبي ضَيْعَةٌ عظيمة ، فشُغلَ يوْمًا في بُنْيان له ، فقالَ لي : يا
بُنَيّ ، إنّي قد شُغلْتُ في بُنْياني هذا اليوم عن ضَيْعتي ، فاذْهَبْ
إليْها فاطَّلعْها . وأمَرني فيها ببَعْض ما يُريد ثمَّ قال لي : ولا
تَحْتَبسْ عنّي ، فإنَّكَ إن احْتَبَسْتَ عنّي كُنْتَ أهَمّ إليَّ من
ضَيْعَتي ، وشَغَلْتَني عن كلّ شيء من أمْري .
فخرجْتُ
أريدُ ضَيْعَتَه التي بَعَثَني إليها ، فمَررتُ بكَنيسة من كنائس
النَّصارى ، وسَمعْتُ أصْواتَهم فيها وهم يُصلُّون ، وكنتُ لا أدْري ما
أمْرُ النَّاس ، لِحَبْس أبي إيَّاي في بَيْته . فدَخلْتُ عليهم أنظُر ما
يصْنَعون ، فلمَّا رأيْتُهم أعجَبَتْني صلاتُهم ورَغبْتُ في أمْرهم ،
وقلْتُ : هذا والله خَيْرٌ من الدّين الذي نحنُ عليه .
فوَالله
ما بَرحْتُهم حتَّى غَربَت الشَّمسُ ، وتركْتُ ضَيْعةَ أبي فلمْ آتها ،
ثمَّ قلتُ لهم : أينَ أصْلُ هذا الدّين ؟ قالُوا : بالشَّام (أي سوريا) .
فرجعْتُ إلى أبي ، وقد بعثَ في طلَبي وشغَلْتُه عن عمَله كُلّه . فلمَّا
جئْتُه قال : أيْ بُنَيَّ ، أينَ كُنْتَ ؟ أوَلَمْ أكُنْ عهدْتُ إليكَ ما
عهدْت ؟ قلْتُ : يا أبَت ، مررتُ بأناس يُصلُّون في كَنيسة لهم ، فأعْجبَني
ما رأيْتُ من دينهم ، ووَالله ما زلْتُ عندَهم حتَّى غربَت الشَّمس . قال :
أيْ بُنَيَّ ، ليْس في ذلك الدّين خيْرٌ ، دينُكَ ودينُ آبائكَ خيرٌ منه ،
قلتُ : كلاَّ ، والله إنَّه لَخَيْرٌ من ديننَا . فخافَني ، فجعلَ في
رجْلي قيْدًا ، ثمَّ حبَسَني في بيْته .
وبعثْتُ
إلى النَّصَارى ، فقلْتُ لهم : إذا قدم عليْكُم ركْبٌ من الشَّام
فأخْبِرُوني بهم . فقدم عليْهم ركْبٌ من الشَّام ، تُجَّارٌ من النَّصارى ،
فأخْبَروني بهم . فقلتُ لهم : إذا قَضَوْا حوائجَهُم وأرادُوا الرّجْعة
إلى بلادهم ، فآذنوني بهم . فلمَّا أرادُوا الرّجْعة إلى بلادهم أخْبروني
بهم ، فألقَيْتُ الحديدَ من رجْلي ، ثمَّ خرجتُ معهم حتَّى قدمتُ الشَّام .
فقلْتُ : مَنْ أفضَلُ أهْل هذا الدّين علْمًا ؟ قالُوا : الأُسْقُف في
الكَنيسة . فجئْتُه وقلتُ له : إنّي قد رغبْتُ في هذا الدّين وأحْببتُ أن
أكون معك ، أخْدمُك في كَنيسَتك ، وأتعلَّم منكَ وأصلّي معك ، قال : ادْخُل
، فدخلْتُ معه . وكان رجُلَ سُوء : يأمُرُهم بالصَّدقة ويُرَغّبهم فيها ،
فإذا جَمعُوا إليه شيْئًا منها اكْتنَزه ولم يُعطه المساكينَ ، حتَّى جَمع
سَبْع قلال من ذَهب وورق ! فأبْغَضْتُه بُغضًا شديدًا لِمَا رأيْتُه يَصنع .
ثمَّ
مات ، فاجْتمَعت إليه النَّصارى ليَدْفنُوه فقلْتُ لهم : إنَّ هذا كان
رَجُل سُوء ، يأمُركم بالصَّدقة ويُرغّبُكم فيها ، فإذا جئْتُموه بها
اكْتَنزها لنَفْسه ولَمْ يُعط المساكينَ منها شيْئًا . قالُوا : وما
علْمُكَ بذلك ؟ قلت : أنا أدلُّكم على كَنْزه ، قالُوا : فدُلَّنا عليه .
فأرَيْتُهم مَوْضعَه ، فاسْتخْرَجُوا سبْع قلال مملوءة ذهبًا وورقًا .
فلمَّا رأَوْها قالُوا : والله لا نَدْفنه أبدًا . فصَلَبوه ورجَموه
بالحجارة .
وجاءُوا
برَجُل آخر فجعلُوه مكانَه ، فما رأيْتُ رجلاً كان أفضَل منه ولا أزْهد في
الدُّنيا ولا أرْغبَ في الآخرة ولا أدْأبَ ليلاً ولا نهارًا منه .
فأحببْتُه حبّا لم أحبَّه شيئًا قبْلَه، وأقمْتُ معه زمانًا . ثمَّ
حضَرتْهُ الوفاةُ ، فقلتُ له : يا فلان ، إنّي قد كنتُ معك وأحبَبْتُك حبّا
لم أحبَّه شيئًا قبْلَك وقد حضَرك ما ترى من أمر الله تعالى ، فإلى مَنْ
تُوصي بي ؟ وبمَ تأمُرني ؟ قال : أيْ بُنيَّ، واللهِ ما أعلَمُ اليومَ
أحدًا على ما كنتُ عليه، فقد هلكَ النَّاسُ وبدَّلُوا وتركُوا أكثَر ما
كانُوا عليه ، إلاَّ رجُلاً بالموْصل وهو فُلان ، وهو على ما كنتُ عليه
فالْحَقْ به .
فلمَّا
مات وغُيّب (أي دُفن) لحقْتُ بصاحب الموْصل ، فقلتُ له : يا فُلان ، إنَّ
فلانًا أوْصاني عند موْته أن ألحقَ بك وأخبَرَني أنَّك على أمْره ، فقال لي
: أقِمْ عندي . فأقَمْتُ عنده ، فوجدْتُه خَيْر رجُل ، على أمْر صاحبه .
ثمَّ لَمْ يَلْبَث أن حضَرتْه الوفاةُ ، فقلتُ له : يا فلان ، إنَّ فلانًا
أوْصى بي إليك وأمَرني باللُّحوق بك ، وقد حضَرك من أمر الله ما ترى ، فإلى
مَنْ تُوصي بي ؟ وبمَ تأمُرني ؟ قال : يا بُنيَّ ، واللهِ ما أعلَمُ
رجُلاً على مثل ما كُنَّا عليه إلاَّ رجُلاً بنصيبين ، وهو فُلان ،
فالْحَقْ به .
فلمَّا
مات وغُيّب لحقْتُ بصاحب نصيبين ، فأخْبَرتُه خبَري وما أمَرني به صاحباي ،
فقال : أقِمْ عندي . فأقَمْتُ عنده ، فوجدْتُه على أمْر صاحبَيْه ،
وأقمْتُ مع خَيْر رجُل . فوالله ما لَبثَ أن حضرهُ الموتُ، فقلتُ له : يا
فُلان ، إنَّ فلانًا كان أوْصى بي إلى فُلان ، ثمَّ أوْصى بي فُلان إليك ،
فإلى مَنْ تُوصي بي ؟ وبمَ تأمُرني ؟ قال : يا بُنيَّ ، واللهِ ما أعلمُه
بقيَ أحدٌ على أمْرنا آمُرك أن تأتيه ، إلاَّ رجُلاً بعَمُّوريَّة من أرض
الرُّوم ، فإنَّه على مثْل ما نحنُ عليه ، فإن أحْبَبْتَ فأْتِه فإنَّه على
أمْرنَا .
فلمَّا
ماتَ وغُيّبَ لحقْتُ بصاحب عمُّوريَّة ، فأخْبَرتُه بخَبري ، فقال : أقِمْ
عندي . فأقمتُ عند خيْر رجُل على هَدْي أصحابه وأمْرهم ، واكتسبْتُ حتَّى
كانتْ لي بقراتٌ وغُنَيْمة ، ثمَّ نزلَ به أمْرُ الله . فلمَّا حُضر قلتُ
له :
يا
فُلان ، إنّي كنتُ مع فُلان فأوْصى بي إلى فُلان ، ثمَّ أوْصى بي فُلان
إلى فُلان ، ثمَّ أوْصى بي فُلان إليك ، فإلى مَنْ تُوصي بي ؟ وبمَ تأمُرني
؟ قال : أي بُنيَّ ، واللهِ ما أعْلَمُه أصْبح اليومَ أحدٌ على مثْل ما
كُنَّا عليه من النَّاس آمُركَ به أن تأتيه ، ولكنَّه قد أظَلَّ زمانُ
نَبيٍّ ، وهو مَبعوثٌ بدين إبراهيم عليه السَّلام ، يَخْرج بأرْض العَرب ،
مُهاجَرُه إلى أرْض بين حرَّتَيْن بينهما نخْلٌ (هذه الأرضُ هي المدينة
التي هاجر إليها محمَّدٌ صلّى الله عليه وسلَّم) ، به عَلاماتٌ لا تَخْفَى :
يأكلُ الهديَّة ، ولا يأكلُ الصَّدقة ، وبين كَتفَيْه خاتَمُ النُّبُوَّة ،
فإن استطعْتَ أن تلْحقَ بتلْكَ البلاد فافْعَلْ .
ثمَّ
ماتَ وغُيّب ، ومكثْتُ بعمُّوريَّة ما شاء الله أن أمكُث . ثمَّ مَرَّ بي
تُجَّارٌ ، فقلْتُ لهم : احْملُوني إلى أرْض العَرب وأعْطيكُم بَقَراتي هذه
وغُنَيْمتي ، قالُوا : نَعَم . فأعْطَيْتُهُموها ، وحمَلُوني معهُم ،
حتَّى إذا بَلَغُوا وادي القرى ظَلَمُوني ، فبَاعُوني إلى رجُل يَهودي
عبدًا . فكنتُ عنْدَه ، ورأيْتُ النَّخْلَ ، فرَجَوْتُ أن يكونَ هذا
البلَدُ الذي وَصَفَ لي صاحبي ، ولم يَحقَّ في نَفْسي . فبيْنما أنا عنْدَه
إذ قَدم عليْه ابنُ عمٍّ له من بَني قُرَيْظة ، فابْتاعَني منه واحْتملَني
إلى المدينة ، فوَاللهِ ما هو إلاَّ أن رأيْتُها فعَرَفْتُها بصفَة صاحبي ،
فأقَمْتُ بها .
وبُعثَ
رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم ، فأقامَ بمكَّة ما أقام لا أسْمعُ له
بذِكْر مع ما أنا فيه من شُغْل الرّقّ . ثمَّ هاجر إلى المدينة ، فوَالله
إنّي لَفي رأْس نَخْلَة لسَيّدي أعْملُ فيه بعضَ العَمَل وسيّدي جالسٌ
تحتها ، إذ أقْبلَ ابنُ عمّ له حتَّى وقفَ عليه فقال : يا فُلان ، قاتلَ
الله بَني قيلَة ، واللهِ إنَّهم الآن لَمُجْتَمعون بقُباء على رجُل قدمَ
عليْهم من مكَّة اليوم ، يزْعُمون أنَّه نَبيّ . فلمَّا سمعْتُها ،
أخَذَتْني مثْل الرّعْدة من البرد حتَّى ظننتُ أنّي سأسْقُط على سيّدي .
فنزلْتُ عن النَّخْلة ، وجعلْتُ أقول لابن عمّه ذاك : ماذا تقول ؟! فغضب
سيّدي ولَكَمَني لكْمةً شديدة، ثمَّ قال : مالَكَ ولهذا ؟! أقْبلْ على
عمَلك . قلتُ : لا شيء ، إنَّما أردْتُ أن أسْتَثبتَه عمَّا قال .
وقد
كان عندي شيءٌ قد جمعْتُه ، فلمَّا أمْسيْتُ أخذْتُه ثمَّ ذهبْتُ به إلى
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بقُبَاء . فدخلْتُ عليه وقلْتُ له :
إنَّه قد بلَغَني أنَّك رجلٌ صالح ، ومعك أصحابٌ لك غُرباء ذَوُو حاجة ،
وهذا شيءٌ قد كان عندي للصَّدقة، فرأيْتُكم أحَقّ به من غيركم . فقرَّبتُ
إليه ، فقال لأصحابه : كُلُوا ، وأمْسَكَ يَدَه فلمْ يأكُل . فقلتُ في
نَفْسي : هذه واحدة ، ثمَّ انصرفْتُ عنه .
وتحوَّلَ
رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة ، فجمعْتُ شيْئًا ثمَّ
جئْتُه به ، فقلْتُ له : إنّي قد رأيتُكَ لا تأكلُ الصَّدقة ، فهذه هديَّة
أكرمْتُكَ بها . فأكلَ منها ، وأمَر أصحابَه فأكلُوا معه ، فقلتُ في نفْسي :
هاتان اثْنَتان .
ثمَّ
جئْتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم وهو ببَقيع الغَرقَد قد تبعَ جنازة
رجُل من أصحابه ، علَيَّ شَمْلَتان لي ، وهو جالسٌ في أصحابه . فسلَّمتُ
عليه ، ثمَّ اسْتدرْتُ أنظُر إلى ظهره هل أرى الخاتَم الذي وصَفَ لي صاحبي .
فلمَّا رآني رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم اسْتَدْبَرْتُه ، عرفَ أنّي
أسْتَثْبتُ من شيء وُصفَ لي ، فألْقى رداءَه عن ظهْره ، ونظرتُ إلى الخاتَم
(أي خاتَم النُّبوَّة) فعَرفْتُه . فأكْبَبْتُ عليه أُقَبّلُه وأبكي ،
فقال لي : تحوَّلْ ، فتحوَّلتُ وجلسْتُ بينَ يديْه ، وقصصتُ عليه حديثي ،
فأعجبَهُ أن يسمع أصحابُه ذلك .
وأسلَم سَلْمان رضي الله عنه ، ثمَّ عاد إلى سيّده .
قال
سلْمان : وبعد مُدَّة ، قال لي رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم : كاتِبْ
يا سلْمان (والمكاتبة هي أن يتَّفق مع سيّده على مَبلغ من المال أو عمل
يُؤدّيه له لكي يُحرّره من الرّقّ) .
فكاتبتُ
سيّدي على ثلاثُمائة نخْلَة أُحْييها له ، وأربعين أوقية من ذهَب
(والأوقية هي جزءٌ من الرَّطل) . فقالَ النَّبيُّ لأصحابه : أعينُوا أخاكُم
. فأعانُوني بالنَّخْل : الرَّجُلُ بثلاثين وَديَّة ، والرَّجُلُ بعشرين ،
والرَّجُلُ بعشْر ، يُعينُ الرَّجُلُ بقَدْر ما عنْده ، حتَّى اجْتمعتْ لي
ثلاثمائة وَديَّة (والوَديَّة هي الفَسيلةُ الصَّغيرة من النَّخْل ،
تُغرَسُ لتُصبح نخلَة) . فقال لي رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم :
اذْهبْ يا سلْمان ، ففَقّرْ لها (أي احفرْ لها) ، فإذا فرغْتَ فأْتني أكُنْ
أنا أضعُها بيَدي . ففقَّرتُ وأعانَني أصحابي ، حتَّى إذا فرغْتُ جئْتُه
فأخْبرتُه ، فخرجَ معي إليها ، فجعلْنا نُقرّبُ إليه الوديَّ ويضعُه النَّبيُّ بيَده حتَّى فَرغْنا . فوَالذي نفسُ سلْمان بيَده ما ماتتْ منها وديَّةٌ واحدة !
فأدَّيتُ
النَّخلَ وبقيَ علَيَّ المالُ ، فأتَى رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم
بمثْل بَيْضة الدَّجاجة من ذهَب وقال لأصحابه : ما فعلَ الفارسيُّ المكاتب ؟
فدُعيتُ له ، فقال : خُذْ هذه فأدّها مِمَّا عليك يا سلْمان ، قلتُ : وأين
تقعُ هذه مِمَّا علَيَّ يا رسولَ الله ؟! قال : خُذْها ، فإنَّ الله
سيُؤَدّي بها عنك .
فأخذْتُها ووزنتُها لسيّدي ، فوَالذي نفْسُ سلْمان بيَده : أرْبعين أوقية ! فأوْفَيْتُه حقَّه وأعتَقني ، فشهدْتُ مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معركة الخندق حُرّا ، ثمَّ لم يَفُتْني معه أيُّ مَشْهد .
هذه
إذًا شهادات جديدة بأنَّ اليهود والمسيحيّين كان لهم عِلْمٌ بأنَّهُ
سَيُبعَثُ نَبيٌّ في جزيرة العرب (السّعوديّة) ، يكون نبيَّ آخر الزَّمان ،
وكانُوا يعرفُون صفاتَه وكانُوا أُمِرُوا باتّبَاعه .