مدارسة علم اصول الفقه الحلقه الاولي

المسألة الأولى : تاريخ علم أصولِ الفقه – النشأة والتطور . ( الحلقة الثانية )
الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين والمرسلين محمد صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم وبعدُ :
فإنَّ علم أصول الفقه من العلوم التَّي لا يستغني عنها طالب العلم ؛ لذلكَ شرعتُ - بحمد الله وتوفيقه – بدراسته وقراءة الكتب المؤلفة فيه من الرسالة إلى كتب المعاصرين ، ولا بدَّ قبلَ البدء في مسائل العلوم أنْ نعرفَ تاريخ هذا العلم وكيف نشأ ، وما هي المراحل التي مرَّ بها حتى وصل إلى ما وصل إليه .
ومن خلال تصفحي لبعض كتب الأصول المعاصرة وجدتُ أنَّ أغلب حديثهم يدور حول كلام معيَّن لا يتغير ولم يتبدل في عرض تاريخ علم أصول الفقه فهم يبدؤون من عصر النبوة في الصحابة ثم التابعين ثم الأئمة المجتهدين .
وقد اصطلحتُ على تقسيم خاص بي في الحديث عن نشأة أصول الفقه وتطوره فجعلتُ الرسالة هو أسُّ هذا التقسيم وقسمتُ على النحو التالي :
1- المرحلة الأولى : ما قبل الرسالة .
2- المرحلة الثانية : الرسالة .
3- المرحلة الثالثة : ما بعدَ الرسالة .
وجاء هذا التقسيم ؛ لما لكتاب الرسالة من أهميَّة في تحديد مسار هذا العلم وتبويب أبوابه والتفريعات، وكلُّ من جاء بعده فهو عالةٌ على الكتاب وصاحبه – رحم الله صاحبه - .
وفي نهاية هذه المسألة سأخصص جزءاً في ردِّ دعوى من ادَّعى أنَّ الرسالة ليس هو أولِّ كتاب في الأصول وسميَّتُ ذلك :
السّيفُ المسلول في قطع دعوى من قال : إنَّ الرسالة ليس أولُّ كتابٍ في الأصول بالحجة والبراهين ليس بالدعاوى والأقاويل .
المرحلة الأولى : ما قبلَ الرسالة .
وهذه المرحلة يُقسمها كلُّ منْ كَتَبَ في الأصول إلى ثلاثة أقسام :
أ‌- عصر النبوة .
ب‌- عصر الصحابة .
ت‌- عصر التابعين .
وقبلَ الشروعِ في عرض تلك التقسيمات يجبُ أنْ نعلمَ أنَّ الأصل هو ما عليه غيره فأصول الفقه يكون قبل الفقه في استخراج الأحكام الشرعيَّة ؛ فإنَّ الترتيب المنطقي للأمور يقضي بأن القواعد الأصولية بشكلها العام سابقة في الوجود على الفقه كما يسبق أساس البناء على البناء نفسه ، فلا تعقل وجود فقه من مجتهد إلا وتعقل أنه يرسم قبل ذلك أصولاً بنى عليها أحكامه وهذا المنطق العقلي هو الذي وقع فعلاً ، فإننا إذا رجعا إلى الواقع وجدنا أن الفقه مسبوقٌ بقواعد أصولية كان يبني عليها الفقهاء من الصحابة فمن بعدهم يبنون عليها أحكامهم ويلاحظونها عند الاستنباط وإن لم يكن مُدونةً في بطون الكتب ( 1) .
أ‌- عصر النبوة :
كان الصحابة يفزعون إلى الرسول صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم فيما يعرض لهم من الحوادث فإن كان الحكم قد أوحيَ إليه به أفتاهم وأرشدهم سواء أكان الوحي متلوٌ أو غير متلو ، وإنْ لم ينزل عليه في ذلك وحيٌ صريح نظرَ فيما أوحيَ إليه فإن ظهر حكم المسألة أخبرهم به وإلا انظر الوحي الذي لا يلبث أن يأتيه عن قرب بحكم ما أشكل عليه .
سئل رسول الله عن الصدقة بالحمر الأهليّة فقال : ( ما أنزلَ عليَّ فيها شيئاً إلا هذه الآية الفاذة الجامعة ((فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ()
فهذا استدلال من الرسول صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم بعموم الكتاب على مسألة جزئية ) . (2) فهذا رأيٌ لا يعجب عبد الوهاب خلاف إذ قال في كتابه علم أصول الفقه :
(فالرسول كان يفتي ويقضي بما يوحى به إليه ربه من القرآن، ولما يلهم به من السنن، وبما يؤديه إليه اجتهاده الفطري من غير حاجة إلى أصول وقواعد يتوصل بها إلى الاستنباط والاجتهاد. ) (3)
لكن لو دققنا النظر في كلام خلاف نجد أنه أورد كلمة اجتهاد وهذا يكفي حجة عليه لأنَّ الاجتهاد من صفات الكمال فكيف إذاً لا توجد في نبيٍّ .
نخلصُ أنَّ الصحابة – رضي الله عنهم – كانوا إذا وقعت له محادثة يلجؤون إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام .
ب‌- عصر الصحابة .
فإذا انتقلنا إلى عصر الصحابة وجدنا أنَّ المسائل قد كثرت وأشكل على بعضهم حل معضلاتها فلمَّا توفي رسول الله قام بعض الصحابة ممن تصدَّى للإفتاء والقضاء بين الناس كعمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب وغيرهم إذا واجهتهم حادثة أو واقعة لا يعلمون حكمها بالنظر في كتاب الله تعالى لعله تجد حكمها فيه فإن لم يجد بالكتاب ذهبَ إلى السنة فإذا لم يجد نصوصاً في الحكم اجتهدوا وبحثوا عن الأشباه والأمثال ومعرفة العلل الشرعية والمقاصد والمصالح والوقوف على رأي الجماعة وأهل الشورى . (4) .
فكانوا - رضي الله عنهم – في فهم النصوص من الكتاب والسنة ويسأل بعضهم بعضاً فيما خفي عليهم ويقيسون المسائل مما يشبهها ( 5) وهنالك أمثلةٌ كثيرة تبيِّنُ أنَّ الصحابة كانت لهم قواعد ضابطة في الفتوى وإنْ لم تكن مكتوبة سأذكر أمثلة على ذلك :
1- في الموطأ (:ان عمر بن الخطاب استشار في الخمر يشربها الرجل فقال له علي بن أبي طالب نرى أن تجلده ثمانين فإنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى أو كما قال فجلد عمر في الخمر ثمانين ) .فعليٌّ أخذ بمآل أو بسدِّ الذرائع وكلتاهما من قواعد أصول الفقه .
2- كذلك فتوى ابن مسعود بعدة الحامل المتوفَّى عنها زوجها بوضع الحمل ولو عقب وفاته بقليل واستدلَّ في الأولى قوله عز و جل : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً }
والثانية قوله عز و جل : { وأولاتُ الأحمالِ أجلُهن أن يضعن حملهن }
فاختلف الصحابة في ذلك ثم انتهوا إلى قول عبد الله بن مسعود الذي كان يقول من شاء باهلته أن آية النساء الصغرى - سورة الطلاق - نزلت بعد آية النساء الكبرى - سورة البقرة ، وهكذا فإن الصحب الكرام رضوان الله عليهم اتفقوا على رأي ابن مسعود فكان إجماعاً بأن النصَّ المتأخر ينسخ أو يخصص النص المتقدم .
ووقائع كثيرة غيرها منها ما جاء في كتاب عمر لأبي أبي موسى الأشعري الذي ذكره ابن القيم في إعلامه وميراث الجدة ، وهكذا نرى أنَّ الصحابة حينما كانوا يبحثون عن الأحكام والاستنباط فإنهم اعتدوا منهجا أصوليا غير مكتوب ، , يعتمدون على قواعد أصولية ولا يخبطون خبط عشواء (7 ) ومع ضعف في هذا الحديث لكن نذكره على سبيل الاستئناس :
حديث معاذ بن جبل : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال " كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ " قال أقضي بكتاب الله قال " فإن لم تجد في كتاب الله ؟ " قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال " فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا في كتاب الله ؟ " قال أجتهد رأيي ولا آلو ( لا أقصر في الإجتهاد ) فضرب رسول الله صلى الله عليه و سلم صدره وقال " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله "
ج- عصر التابعين .
وإذا انتقلنا إلى عصر التابعين وجدنا الاستنباط يتسع لكثرة الحوادث ولعكوف طائفة من التابعين على الفتوى مثل سعيد بن المسيب وعلقمة والنخعي فقد كان بين أيديهم كتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة وكان ينهج منهجهم المصلحة إن لم يكن نص ( 8 ) ، وأصبح لكلِّ إمام قواعد اعتمدها في الفتوى والاجتهاد وعوَّل عليها في استنباط الأحكام وهذه القواعد موجودة في مواضع مختلفة من كتبهم وكتب تلاميذهم ( 9 ) .
وفي أواخر عهد التابعين بدأت المدارس تظهر قدراً أكبر من التمايز والاختلاف فبرز في العراق مدرسة الرأي وبرزت في المدينة مدرسة الحديث ( 10 ) وبدأت رحلة التعصب المدرسي تشقُّ غمارها غبر غابات العقول والأفئدة إلى أن هيَّأ الله لهذه الحال رجلاً عالماً عاملاً ربانيَّاً هو الإمام الشافعي .
المرحلة الثانية : الرسالة .
بحثَ العلماء في الدافع وراء تأليف الإمام الشافعي لكتابه الرسالة فاتفقَ أغلبهم على أنَّ الدافع الرئيس هو طلب عبد الرحمن مهدي من الشافعي أن يضع كتاباً فيه معاني القرآن ويجمع قبول الأخبار فيه وحجة الإجماع وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة فوضع له كتاب الرسالة .
فقال عبد الرحمن : ما أصلِّي صلاة إلا وأنا أدعو للشافعي فيها ) .
والذي يظهر أنَّ الشافعي أعاد النظر في الكتاب الذي أرسله إلى ابن مهدي ولم يعد تأليفه مع أنَّ الرازي قال في مناقب الشافعي :
( اعلم أن الشافعي رضى الله عنه صنف كتاب الرسالة ببغداد، ولما رجع إلى مصر أعاد تصنيف كتاب الرسالة، وفي كل واحد منهما علم كثير ) .
أروالذي بين أيدينا هو كتاب الرسالة بحلّته الجديدة ولا وجه هنا لمعترض يقول : لعل الرسالة كانت كتابين ويبدأ يراوغ لينفي وجود كتاب الرسالة أو يشكُّ أن هذا الكتاب هو للشافعي فيُردُّ عليه بجملة :
لماذا لا تقل حينما يطبع أي كتاب طبعة ثانية أو ثالثة أن الكتاب كتابان وليس واحداً سينقطع ، ولعلَّ الشافعي أعاد النظر في الأول وزاد فيه وقدَّمَ وأخر فاخرج الرسالة في طبعة ثانية معتمدة والحقوق في النهاية محفوظة للمؤلف . وانظر السيف المسلول ،ولكم يكن الرسالة الكتاب الوحيد في الأصول ألفه الشافعي بل له كتبا إبطال الاستحسان وجماع العلم ، فأصبح علم أصول الفقه علماً مستقلاً رُتبت أبوابه وحررت مسائله وبدأت حركة التأليف الأصولي تزداد .
المرحلة الثالثة : ما بعد الرسالة .
بعد الشافعي تتابعت المؤلفات الأصولية وفُرعت المسائل وعُقدت الأبواب واستغلق فهمها واحكم عقدها بسبب دخول علم الكلام فيها ولا حول ولا قوة إلى بالله ، فألف الامام أحمد طاعة الرسول وكتب داوود الظاهري الإجماع وازدهرت الحركة الأصولية وبلغت ذِروتها في القرنين الخامس والسادس حيثُ ظهرت أهم كتب الأصول مثل المعتمد لأبي الحسين البصري واللمع وأصول السرخسي والمحصول وروضة الناظر وجنة المناظر والورقات وغيرها الكثير الكثر .
وها نحنُ الآن قد وصلنا إلى الحاضر إلى عصرنا فلا أرى إلا أنَّ غاية غايتنا هو شرح الورقات لا غير ، - إلا من رحم الله – في زمن ضعفت فيه العزائم وهزلت العقول وقصُرت الهمم فلاحفظ للمتون وللمختصرات فضلاً عن المطولات وإلى الله نشكو هذه الغربة .
وأنصح بقراءة كتاب الدكتور الجيزاني معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة لأنَّ المرحلة الثانية والثالثة أبان فيها معالم أهل السنة والجماعة .
وأيضاً أنصح بكتاب شعبان أسماعيل أصول الفقه تاريخه ورجاله . دار المريخ الرياض ط1 1401هـ 1981م .
والحمد لله ربِّ العالمين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مصطفى سعيد الخن : دراسة تاريخية للفقه وأصوله . الشركة المتحدة للتوزيع د.ت ط .
(2) د. عياض السلمي : أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله . التدمرية الرياض ط2 1429هـ 2008م .
(3) عبد الوهاب خلاف : علم أصول الفقه ط2 . د.ت ط .
(4) أ.د.عبد الكريم النملة : اتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر ط3 1427هـ 2006م .
(5) انظر ( 2) . وأيضا شرح المعتمد .
(6) محمد أبو زهرة : أصول الفقه دار الفكر العربي . د.ت .
(7) انظر (1) .
( انظر (6) .
(9) انظر (4) . ( 10 ) انظر (2) .

» مدارسة علم اصول الفقه الحلقه الثانيه
» بداية شرح اصول الفهم لفضيلة الشيخ مصطفي سلامه
» الفقه الميسر علي ضوء الكتاب والسنه
» الفقه الميسر في ضوء الكتاب والسنة
» الخلاصة في أحكام السجن في الفقه الإسلامي