لو عَرَضْنا موضوع قِيادَةِ المرأة للسّيّارَةِ على المصْدَرِ الثّاني مِن مصادِرِ اكِتِسابِ الحقّ وهو النِّظام، فهل لها حقٌّ نِظاميّ؟
لقد سبق وبيّنا أنّ النِّظامَ المعتبرَ في الدّولةِ المسلمة مَرجِعُهُ الشّرع ويُعْتَبَرُ امْتِداداً له، وما سوى ذلك ليس له اعتبارٌ شرعيّ، وإذا تبيّنَ أَنّ النِّظامَ في المملكةِ أيضاً لا يَسْمَحُ للمرأةِ بِقِيادَةِ السّيّارة، فصار الشّرْعُ والنّظامُ كلاهُما لا يُعْطيانها الحقّ، فَمِنَ أيْنَ اكْتَسَبَتْ حقَّ القِيادَةِ الذي تطالبُ به إذن؟ وكيف تدّعي حقّاً وهميّاً لا حقيقةَ له؟ ولو قُلنا بِصحّةِ هذا الحقِّ الّذي لا أصْلَ له فإنّنا سَنفْتَحُ باباً واسعاً للمطالباتِ الوهميّةِ لا سبيلَ إلى إغلاقه، فللمرأةِ أن تُطالبَ بحقِّها في السُّفور، وللمرأةِ أن تُطالبَ بحقِّها في السَّفَرِ لِوحْدِها دُونَ محرم، وللمرأةِ أَن تُطالب بحقِّها في المشاركة في الألعاب الأولمبية،.. إلى آخره..
فالشّرعُ إذن لا يُعطيها الحقَّ في القيادة،والنِّظامُ كذلك لا يُعطيها الحقّ في القيادة، فَمِن أينَ لها أن تُطالبَ بهذا الحقّ؟ اللهُمّ إلاّ إن كانت تستنِدُ في هذا الحقّ إلى قِيَمِ الغربييّن والمستغربين وأعرافِهِم، فإنّ قِيَمَ هؤلاءِ وأعرافَهُم لا قيمةَ لها في الإسلام إلاّ كما قال تعالى {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور : 39] فعلى الّذينَ اسْتُدْرِجُوا إلى مَقالَةِ (مِن حقِّ المرأةِ أَنْ تقود) والّذينَ اشْتَبَهَ عليهِم فَتساءلوا (أليسَ لها الحقُّ في أَنْ تَقود؟) على هؤلاءِ أَنْ يَتَنبّهوا إلى أَنّ الحقوقَ لا تُكْتَسِبُ مِن الأهواءِ ولا مِن العاطِفة ولا مِن الفَلْسَفاتِ الغربيّةِ والشّرقيّة وإنّما تُكْتَسَبُ مِن مَصادِرِها الشّرعيّة والنِّظاميّةِ المعتبرةِ شرعاً، وخِلافُ ذلكَ يُعدُّ تَمرُّداً وخُروجاً على الشّرْعِ مِن جِهة، وخُروجاً على النِّظام مِن جِهَةٍ أُخْرَى.
اعتبارات مصاحبة:
الخلاف في حكم قيادة المرأة للسيّارة.
قد يحتج البعض بآراءِ بعضِ العلماء وطلبةِ العلم المخالفِ لفتوى كبار العلماء في المملكة، سواء كان أولئك المخالفون في داخل المملكة أو خارجها، فالفصل في هذا يعود إلى أمرين:
الأول: المكان والبيئة. في معظمِ البلادِ حَوْلَنا يكادُ الاختلاطُ بين الجِنسيْن أن يكونَ عُرفاً اجتماعيّاً مُحترَماً ومحميّاً بالنِّظام، وكذلك سُفورُ النِّساءِ على تفاوت بين بيئةٍ وأخرَى، وبالتالي فإنّ العلماء الّذين يعيشونَ في تلكَ البيئات لا يرون محذوراً في قيادَةِ المرأةِ للسيّارة، لأنّ قياسَ قيادةِ المرأةِ للسيّارة إلى مفسدةِ الاختلاط المتأصّل بين الجنسين، ومفسدةِ اعتيادِ النسّاءِ للسّفور في بلادهم يجعل قيادةَ المرأةِ [الحاصل أصلا عندهم ]بالنّسبةِ إلى تلك المنكرات الآنفة الذكر شيئاً عرضيّاً لا يُقدّم ولا يؤخّر، فلا غرابةَ أن يُفتوا بالإباحة، أمّا في بلادنا المحافظة التي تحتضن الحرمين وتستظلّ بالشريعة فالأمر مختلف، فإنّنا ولله الحمد لم نصل إلى ذلك الوضعِ الخطير الذي وصلوا إليه، فالاختلاط والسّفور في بلادنا ما زال محدوداً ومستنكراً، وحياءُ المرأةِ وسترُها في المجتمعِ هو الأصل، فإذا قيل إنّنا البلد الوحيد في العالم الذي لا يُسمح فيها للمرأةِ بالقيادة قلنا نعم لأنّ ذلك من خصوصيّاتِنا ومن تَميُّزِنا الذي نفخر به ونحمد الله تعالى عليه، ولذلك يرى كبار العلماء في بلادنا أنّ قيادة المرأة يؤدّي إلى محاذير عديدة - سبق ذكرها - لا تُوجدُ أصلاً في مجتمعاتِنا، فلماذا نُمهِّدُ لها الطّريق فيحصُل لنا ما حصل في تلك البلاد الأخرى؟ ونرى أثَرَ البيئةِ والمكانِ مطّرداً في مسائلَ أُخْرَى أيضاً، كمسألةِ المظاهراتِ مثلاً، قد يرى العلماءُ في بلادٍ مّا جوازَها للمصلحةِ الرّاجحة منها في تلك البلاد، بينما يرى كبارُ علماءِ المملكة أنّ مفاسدها في بيئتِنا أكبرُ مِن مصالحها لاختلافِ البيئةِ والظروفِ المحيطة أو لِعللٍ أخرى، وقِس على ذلك.
الأمر الثاني: المرجعية. إذا لم تنضبط الفتوى أصبحت فوضى، والضابط في الفتوى أن يُعتمد منها ما صدر عن الجهات المخوَّلة بالفُتيا، ومرجعيّةُ الفتوى في المملكة هي هيئة كبار العلماء، فإذا خالف أحدٌ من طلبة العلم فتوى كبار العلماء في مسائل الاجتهاد، كمسألة قيادة المرأة للسيّارة، رجعنا في الرأي الرّاجح إلى كبار العلماء لا إلى صغار طلبةِ العلم.
بين الشرع والنظام
ذكرنا فيما سبق أنّ النِّظامَ أحد مَصْدَري اكتساب الحقّ، وأنّ هذا ليس على الإطلاق وإنّما بِما يتّفق مع المصدر الأساس الّذي هو الشّرع، فَمنحُ النّظامِ للحقّ مُقيّدٌ بما وافق الشّرع، فلو مضى الزّمان وتبدّل الحال وقُدِّمَ النِّظامُ على الشّرع في أمرٍ ما فإنّ النِّظام حينذاك لا يُعتَبرُ مانحاً لِحقِّ بل مانحاً لما يَعتبرُهُ الشّرعُ باطلاً ومنكراً يستلزم النّصيحة والاحتساب، ولا يُعدُّ مَن اسْتندَ إلى النّظامِ في تلكَ الحال صاحب حقّ.
أخيراً، أسأل الله تعالى أن يرينا الحقّ حقّاً ويرزقنا اتّباعَه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يقينا الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنه سميع مجيب.