بيان فضيلة العقل والنقل ولزوم القبول منهما
قد ثبت أن العقل هو الآلة التي عرف بها الإله وحصل به تصديق الرسل والتزام الشرائع وأنه المحرض على طلب الفضائل والمخوف من ركوب الرذائل والناظر في المصالح والعواقب فهو مدبر أمر الدارين ومثله كالضوء في الظلمة فقد يقل عند أقوام فيكون كعين الأعشى ويزيد فيكون كنور القبس ويكون عند قوم كضوء الشمعة وعند الكاملين كطلوع الشمس على عين زرقاء اليمامة
ولهذا تتفاوت العقلاء في العلوم والأعمال فينبغي لمن رزق العقل
أن لا يخالفه ولا يخلد إلى ضده وهو الهوى فمتى مال إلى الهوى صير الإمام مأموما وذلك لا يحسن
فأما النقل فإن العقل لما نظر في معجزات الرسل صلوات الله عليهم صدقهم وعلم أنما أتوا بما أتوا به عن الخالق سبحانه فقولهم معصوم عن خطأ محفوظ عن غلط
وإذ قد بان فضل العقل وشرف النقل لزم القبول منهما
ما اتفق عليه العقل والنقل من أن الدنيا دار بلاء
فينبغي أن لا ينكر فيها وقوع البلاء
من استخبر العقل والنقل عن وضع الدنيا أخبراه أنها مارستان بلاء فلا ينكر وقوع البلاء بها وليس فيها لذة على الحقيقة إنما لذتها راحة من مؤلم وإنما المراد من الأكل إقامة خلف المتحلل ثم كم فيه من محذور فإن الإكثار يوجب التخمة ومن المطاعم مؤد بالإسهال أو بالإمساك ومنها ما يقوي بعض الأخلاط وإنما جعلت اللذة في التناول كالبرطيل
وكذلك الوطأ فإن المراد منه إقامة الخلف وكم في ضمنه من أذى أقله قلة القوى وتعب الكسب ومقاسات أخلاق المعاملة
ومتى حصل محبوب كان نغصه تربي على لذاته ويا سرعان ذهابه مع قبح ما يجني وأقل آفاته الفراق الذي ينكب الفؤاد ويذيب الأجساد
وكل ما يظن من الدنيا سراب وعمارتها وإن حسنت صورتها خراب ومجيئها إلى مجيبها ذهاب ومن خاض الماء الغمر لم يجزع من بلل كما أن من دخل بين الصفين لم يخل من وجل
والعجب لمن يده في سلة الأفاعي كيف ينكر اللسع وأعجب منه من يطلب من المطبوع على الضر التمنع وما أحسن قول الشاعر ... طبعت على كدر وأنت تريدها ... صفوا من الأقذار والأكدار ... ومكلف الأيام ضد طباعها ... متطلب في الماء جذوة نار ... وإذا رجوت المستحيل فإنما ... تبني الرجاء على شفير هار ...
ولولا أن الدنيا دار ابتلاء لم تعتور الأمراض والأكدار ولم يضيق العيش على الأنبياء والأخيار ولقد لزق بهم البلاء وعدموا الراحة
فآدم يعاني المحن إلى أن خرج من الدنيا ونوح يبكي ثلثمائة عام وإبراهيم يكابد النار وذبح الولد ويعقوب يبكي حتى ذهب البصر وموسى يقاسي فرعون ويلقى من قومه المحن وعيسى لا مأوى له إلا البر في العيش الضنك ومحمد صلى الله عليه وسلم يصابر الفقر وقذف الزوجة وقتل من يحبه
ولو خلقت الدنيا للذة لم يبخس حظ المؤمن منها فإن الجمل يأكل أكثر منه والعصفور يسافد أكثر منه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر
وإذ بان أنها دار ابتلاء وسجن ومحن فلا ينبغي أن يقع جزع من البلوى