بين لذات الأعمال الصالحة ولذات الدنيا
هناك عدة فروق بين لذة العمل الصالح ولذة الأمور الدنيوية، ومن هذه الفروق:
1- أن ملذات الدنيا يصحبها منغصات كثيرة، بخلاف لذة العمل الصالح فهي لذة خالصة:
قال ابن الجوزي: «رأيت النفس تنظر إلى لذات أرباب الدنيا العاجلة وتنسى كيف حصلت وما يتضمنها من الآفات...» ا.هـ([1]).
وقال العلامة ابن القيم: «اللذة المحرمة ممزوجة بالقبح حال تناولها مثمرة للألم بعد انقضائها» ا.هـ([2]).
2- أن لذة العمل الصالح دائمة في الدنيا والآخرة، بخلاف لذة الدنيا فهي زائلة في الدنيا قبل الآخرة:
نعم -والله- لذة الإيمان والعمل الصالح دائمة أبدية لا تنقطع، وأما لذات الدنيا فهي مع ما فيها من منغصات منقطعة في الدنيا، فضلا عن انقطاعها في الآخرة.
وجاء عند البخاري من حديث ابن عباس في حديث هرقل أنه قال لأبي سفيان ومن معه: وسألتك أيرتد أحد -أي: من المسلمين- سخطة لدينه، بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب([3]).
قال ابن حجر: «زاد ابن السكن في «معجم الصحابة»: يزداد به عجبا وفرحا.
وفي رواية ابن إسحاق: وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلبا فتخرج منه» ا.هـ([4]).
وقال ابن الجوزي: «تأملت أحوال الناس في حالة علو شأنهم فرأيت أكثر الخلق تبين خسارتهم حينئذ، فمنهم من بالغ في المعاصي من الشباب، ومنهم من فَرَّط في اكتساب العلم، ومنهم من أكثر من الاستمتاع باللذات، فكلهم نادم في حالة الكبر حين فوات الاستدراك لذنوب سلفت، أو قوى ضعفت، أو فضيلة فاتت، فيمضي زمان الكبر في حسرات» ا.هـ([5]).
3- أن لذة الدنيا يعتري الإنسان الملل من سببها، بخلاف لذة العمل الصالح فصاحبها لا يزال يطلب الازدياد من سببها، بل كلما زاد الإنسان من العمل وفق الطريقة الشرعية كلما زادت لذته:
قال ابن الجوزي: «من الأمور التي تخفى على العاقل أن يرى أنه متى لم تكن عنده امرأة أو جارية يهواها هوى شديداً أنه لا يلتذ في الدنيا.
فإذا صور محبوباً مملوكاً تخايل لذة عظيمة.
وإذا كان عنده من لا يميل إليه اعتقد نفسه محروماً.
وهذا أمر شديد الخفاء، فينبغي أن يوضح، وهو أن المملوك مملول، ومتى قدر الإنسان على ما يشتهيه مله ومال إلى غيره» ا.هـ([6]).
4- أن لذات الدنيا تفوت على الإنسان لذة الآخرة، بخلاف لذة الأعمال الصالحة فهي مقدمة للذة الأخروية:
قال ابن الجوزي: «أشد الناس جهلاً منهوم باللذات، واللذات على ضربين: مباحة ومحظورة.
فالمباحة لا يكاد يحصل منها شيء إلا بضياع ما هو مهم من الدين، فإذا حصلت منها حبة قارنها قنطار من الهم، ثم لا تكاد تصفوا في نفسها بل مكدراتها ألوف.
فإذا تصور عدمها بعد انقضائها وبقاء هذه الألوف المكدرة صار التصوير مغلصما([7]) للهوى محزناً للنفس.
فإذا أنفت أنفت من الأسف على الدوام المستعبد، وعرفت أنها لذة تغر الغمر وتهدم العمر وتديم الأسى.
ومع هذا فالمهموم مهموم كلما عب من لذة طلب أختها، وقد عرف جناية الأولى وخيانتها، وهذا مرض العقل، وداء الطبع فلا يزال هذا كذلك إلى أن يختطف بالموت فيلقى على بساط ندم لا يستدرك.
فالعجب ممن همته هكذا مع قصر العمر، ثم لا يهتم بآخرته التي لذتها سليمة من شوائب، منـزهة من معائب، دائمة الأمد ببقاء الأبد، وإنما يحصل تقريب هذه بإبعاد تلك، وعمران هذه بتخريب تلك، فواعجباً لعاقل حصيف حسن التدبير، فاته النظر في هذه الأحوال، وغفل عن تمييز بين هذين الأمرين.
وإن كانت اللذة معصية انظم إلى ما ذكرناه عار الدنيا، والفضيحة بين الخلق، وعقوبة الحدود، وعقاب الآخرة وغضب الحق سبحانه» ا.هـ([8]).
5- أن لذات الدنيا يصحبها الضرر أو خوف الضرر، بخلاف لذة الأعمال الصالحة فلا ضرر فيها ولا خوف من الضرر:
قال ابن الجوزي: «تأملت خصومات الملوك، وحرص التجار، ونفاق المتزهدين، فوجدت جمهور ذلك على لذات الحس.
وإذا تفكر العاقل في ذلك علم أن أمر الحسيات قريب يندفع بأقل شيء، وأن الغاية منه لا يمكن نيلها، وإن بالغ عاد بالأذى على نفسه فناله من الضر أضعاف ما ناله من اللذة، كمن يأكل كثيراً أو ينكح كثيراً.
فالسعيد من اهتم لحفظ دينه، وأخذ من ذلك بمقدار الحاجة.
واعجبا، هذا الملبوس إذا كان وسطا خَدم، وإن كان مرتفعاً خُدم، فإن نظر اللابس إليه معجباً به فإن الله لا ينظر إليه حينئذ.
وفي الصحيح: بينا رجل يتبختر في بردته خسف به.
والمشروب إن كان حراماً فعقابه أضعاف لذته، وهتكه العرض بين الناس عقاب آخر، وإن كان مباحاًَ فالشره فيه يؤذي البدن.
وأما المنكوح فمداراة المستحسن يؤذي فوق كل أذى، ومقاساة المستقبح أشد أذى فعليك بالتوسط» ا.هـ([9]).