سؤال يدور في بال الكثير من المسلمين في دنيا اليوم ، والكل يبحث عن الجواب .
تعال معي إلى العارف بالله أبي حازم وهو يجيبنا على هذا السؤال عندما
استدعاه أميرالمؤمنين سليمان بن عبد الملك احد أمراء الدولة الأموية .
فعندما دخل العالم على الأمير ، وجه الأمير إليه هذا السؤال (يا أبا حازم : لماذا أصبحنا نحب الدنيا ونكره الموت ؟)
واسمعوا إلى إجابة هذا الإمام التي لو ألقيت على جبل أشم لتحرك الجبل من مكانه .
قال : (يا سليمان لأنكم عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة ومحال أن يحب الإنسان الخروج من العمار إلى الخراب ) ...
نعم والله كيف لا يحب الدنيا من عمرها ؟ وكيف يحب الآخرة من خربها ؟
اسمع يا من عمرت دنياك الفانية وخربت الآخرة الباقية :
كان علي بن أبي طالب(رضي الله عنه) يقول: (إن
الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون،
فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا
حساب، وغداً حساب ولا عمل).
اسأل نفسك أخي المسلم
هل أنت من أبناء الدنيا أم من أبناء الآخرة ؟
هل أنت في تعاملك مع الناس تبتغي الدنيا أم الآخرة ؟
هل أنت من المسارعين في فعل الخيرات أم من المسارعين في فعل المنكرات ؟ أنا ادعوك إلى أن تنظر في واقع المسلمين اليوم :
كم من الناس نراهم يتراكضون لطلب الدنيا مسرعين مخافة أن تفوتهم، ولكن نراهم يتأخرون عن حضور المساجد لأداء الصلوات الخمس التي هي عمود الدين .
وكم من الناس من نراهم يجلسون في الشوارع والدكاكين الساعات الطويلة، وقد يقاسون شدة الحر لطلب الدنيا، بينما لا نراهم يصبرون على الجلوس دقائق معدودةً في المسجد لأداء الصلاة أو تلاوة القرآن.
وكم نرى من شباب المسلمين من يتسابقون إلى
ملاعب الكرة ، ومقاهي الانترنت ، والألعاب الالكترونية ويدفعون الأموال في
سبيلها ، وربما قضوا الساعات الطويلة ،وكل ذلك في سبيل اللهو والغفلة، ولكن
إذا دعوا إلى حضور الصلوات في المساجد (بحي على الصلاة ..حي على الفلاح )
أعرضوا عن داعي الفلاح وكأن المؤذن يدعوهم إلى سجن أو عقوبة
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لاَ يَرْكَعُونَ *وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}
{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى
السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ *خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ
ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} .
قال سعيد بن المسيب في معنى هذه الآية: " كانوا يسمعون (حيّ على الصلاة،حيّ على الفلاح ) فلا يجيبون وهم أصحاء سالمون "
وقال كعب الأحبار: "والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعة "
إن كثيراً من الناس أصبح يصبر على تحمل المشاقِّ في طلب الدنيا ولا يصبر على أدنى مشقة في طاعة الله ......
ونراهم يغضبون إذا انتُقص شيء من دنياهم ولا يغضبون إذا انتُقص شيء من دينهم.
وكثير من الناس - لشدة حبه للدنيا - لا يقنع بما أباح الله له من المكاسب،
فتجده يتعامل بالمعاملات المحرمة والمكاسب الخبيثة؛ من الربا والرشوة والغش
في البيع والشراء، بل يفجر في خصومته ، أو يقيم شهادة الزور ليستولي على
مال غيره بغير حق، وهو يسمع قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا.... }
وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ.... }
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بَعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثمناً قليلاً..... }
لقد استولى حب الدنيا على القلوب فآثرتها
على الآخرة، فبعضهم شغلته الدنيا عن الصلاة، وإذا صلى فقد لا يصليها مع
الجماعة، أو قد يؤخرها عن وقتها، وحتى في أثناء صلاته تجد قلبه منصرفاً عن
صلاته إلى الدنيا يفكر فيها ويعد أمواله ويتفقد حساباته ويتذكر ما نسي من
معاملاته
وكثير من الناس حملهم حب الدنيا وإيثارها على الآخرة على البخل والشح
بالنفقات الواجبة والمستحبة حتى بخل بالزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام .
يُحكى أن رجلاً كان يحاسب نفسه، فحسب يوماً السنوات التي عاشها ، فوجدها ستين سنة. فحسب أيامها، فوجدها واحداً وعشرين ألف يوم وخمسمائة يوم.
فصرخ صرخة، و خرّ مغشياً عليه.
فلما أفاق قال: يا ويلتاه، أنا آتي ربي بواحد وعشرين ألف ذنب وخمسمائة ذنب؟!
يقول هذا لو كان يقترف ذنباً واحداً في كل يوم، فكيف بذنوب كثيرة لا تحصي؟
ثم قال: آه عليّ، عمرت دنياي، وخربت أخراي، وعصيت مولاي، ثم لا أشتهي النقلة من العمران إلى الخراب. وأنشد:
منازل دنياك شيّدتها *** وخرّبت دارك في الآخرة
فأصبحت تكرهها للخراب *** وترغب في دارك العامرة
وختاما اذكرك بقول القائل :
ألا إنَّما الدُّنيا نَضَارةُ أَيْكةٍ ***إذا اخْضَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ جَفَّ جَانبُ
هِيَ الدَّارُ مَا الآمَالُ إلاَّ فَجائِعٌ *** عَليْها ، وَلا اللَّذَّاتُ إلاَّ مَصَائِبُ
فلا تكتحلْ عيناكَ فيها بعبرةٍ *** على ذَاهبٍ مِنْهَا فَإِنَّكَ ذاهِبُ