ص -70- "باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله"
وقول الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} الآية [الإسراء: 57] وقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف: 26-27] الآية، وقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [التوبة: 31] وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّه} الآية [البقرة: 165].
وفي الصحيح عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله –عز وجل-".(1) وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب.
فيه مسائل:
فيه أكبر المسائل وأهمها: وهي تفسير الشهادة، وبيّنها بأمور واضحة.
منها: آية الإسراء، بيّن فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين، ففيها بيان أن هذا هو الشرك الأكبر.
----------------ـ
(1) أخرجه مسلم (23).
ص -71- ومنها: آية براءة، بين فيها أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وبين أنهم لم يؤمروا إلا بأن يعبدوا إلهاً واحدا، مع أن تفسيرها الذي لا إشكال فيه طاعةُ العلماء والعباد في المعصية، لا دعاؤهم إياهم.
ومنها: قول الخليل عليه السلام للكفار: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف: 26-27] فاستثنى من المعبودين ربه، وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله، فقال: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 28].
ومنها: آية البقرة في الكفار الذين قال الله فيهم: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 167] ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، فدل على أنهم يحبون الله حباًّ عظيماً، ولم يدخلهم في الإسلام، فكيف بمن أحب الندَّ أكبر من حب الله؟ فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده؟ ولم يحب الله؟.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: " من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله" وهذا من أعظم ما يُبين معنى "لا إله إلا الله" فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، ولا الإقرارُ بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يُضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو توقف لم يحرُم ماله ودمه.
فيا لها من مسألة ما أعظمَها وأجلَّها! ويا لَهُ من بيان ما أوضحه! وحجة ما أقطعها للمنزاع!.
ص -72- الشرح:
"باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله" سبق بيان أن التوحيد هو: شهادة أن لا إله إلا الله؛ ولهذا قال العلماء: "إن العطف في قوله: "التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله" من عطف المترادفات. ولكن هذا فيه نظر من جهة أن الترادف غير موجود، أعني: الترادف الكامل، لكن الترادف الناقص موجود، فيكون هذا –إذاً- من قبيل عطف المترادفات التي يختلف بعضها عن بعض في بعض المعنى.
وقوله هنا: "باب تفسير التوحيد" يعني: الكشف والإيضاح عن معنى التوحيد، وقد تقدم أن التوحيد هو اعتقاد أن الله –جل وعلا- واحد في ربوبيته لا شريك له، واحد في إلهيته لا ندّ له، واحد في أسمائه وصفاته لا مثل له، سبحانه وتعالى، قال –جل وعلا-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: [11] وذلك يشمل أنواع التوحيد جميعا، فالتوحيد –إذاً- هو اعتقاد أن الله وحده في هذه الثلاثة أشياء.
قوله: "... وشهادة أن لا إله إلا الله" يعني: تفسير شهادة أن لا إله إلا الله، فهذه الشهادة هي أعظم منها؛ وذلك لأن معناها هو الذي قامت عليه الأرض والسماوات، وما تعبّد المتعبدون إلا لتحقيقها ولامتثالها.
والشهادة تارة تكون شهادة عن حضور وبصر، وتارة تكون شهادة عن علم، بمعنى: إما أن يشهد على شيء حضره ورآه، أو يشهد على شيء
ص -73- علمه، فهذان معنيان للشهادة. فإذا قال قائل: أشهد، فيحتمل أنها بمعنى: المشاهدة والرؤية، ويحتمل أنها بمعنى: العلم. ومعنى الشهادة في قولنا: أشهد أن لا إله إلا الله، شهادة علمية، ولهذا تضمن قوله: أشهد العلمَ.
والشهادة في اللغة، والشرع، وفي تفاسير السلف لآي القرآن التي فيها لفظ (شهد) كقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] وكقوله: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} تتضمن أشياء:
الأول: الاعتقاد بما سينطق به، والاعتقاد بما شهده، فكونه يشهد أن لا إله إلا الله يستلزم أنه اعتقد بقلبه معنى هذه الكلمة عن علم ويقين؛ لأن الشهادة فيها الاعتقاد، والاعتقاد لا يسمى اعتقاداً إلا إذا كان ثمَّ علم ويقين.
الثاني: التكلم بها، فالشهادة كما أنها تقتضي اعتقاداً فإنها تقتضي –أيضاً- إعلاماً ونطقاً.
الثالث: الإخبار بذلك، والإعلام به، فينطق بلسانه، وهذا من جهة الواجب –وأيضاً- لا يسمَّى شاهداً حتى يُخبر غيره بما شهد، وهذا من جهة (الشهادة).
فيكون معنى: أشهد أن لا إله إلا الله أعتقد، وأتكلم، وأعلم، وأخبر بأن لا إله إلا الله. فافترقتْ بذلك عن حال الاعتقاد، وافترقتْ كذلك عن حال القول، كما افترقت –أيضاً- عن حال الإخبار المجرد عن الاعتقاد، فلا بد لتحقّقها من حصول الثلاثة مجتمعة؛ ولهذا نقول في الإيمان إنه: اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالجوارح والأركان.
ص -74- فـ(لا إله إلا الله) هي كلمة التوحيد، وهي مشتملة –من حيث الألفاظ- على أربعة ألفاظ:
1- (لا).
2- (إله).
3- (إلا).
4- لفظ الجلالة (الله).
أما (لا هنا فهي: النافية للجنس، تنفي جنس الألوهية الحقة عن أحد إلا الله –جل وعلا- يعني في هذا السياق. وإذا أتى بعد النفي (إلا) -وهي أداة الاستثناء- أفادت معنى زائدة، وهو الحصر، والقصر، فيكون المعنى الإلهية الحقة، أو الإله الحق هو الله، بالحصر والقصر، ليس ثمَّ إله حق إلا هو، دون ما سواه.
وكلمة (إله) على وزن (فعال) وتأتي أحياناً بمعنى (فاعل)، وتأتي أحياناً بمعنى مفعول، وهي -لغة مشتقة من (أله) بمعنى عَبَدَ، وقال بعض اللغويين: إنها من: أَلَهَ يَأْله إذا تحير، فـ(ألَه) فلان يأله أو تألَّه: إذا تحير، وسمي الإله عندهم إلهاً؛ لأن الباب تحيَّرت في كنه وصفه، وكُنه حقيقته.
وهذا القول ليس بجيد، بل الصواب أن كلمة (إله) (فعال) بمعنى (مفعول) وهو المعبود، ويدل على ذلك ما جاء في قراءة ابن عباس أنه قرأ في سورة الأعراف: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127]. كان ابن عباس يقرأها هكذا: {وَيَذَرَكَ وآلهتك} قال: لأن