وخيرُ جليسٍ في الأنامِ كتابُ
إنّ من أسباب السعادة : الانقطاع إلى مطالعة الكتاب ، والاهتمام بالقراءة ، وتنمية العقلِ بالفوائدِ .
والجاحظ يُوصِك بالكتاب والمطالعة ، لتطرد الحزن عنك فيقول :
والكتاب هو الجليسُ الذي لا يُطرِيك ، والصديقُ الذي لا يُغرِيك ، والرفيقُ الذي لا يَمَلُّك ، والمستميحُ الذي لا يستريثك ، والجارُ الذي لا يستبطيك ، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملقِ ، ولا يعاملُك بالمكْر ، ولا يخدعُك بالنفاق ، ولا يحتالُ لك بالكذِبِ .
والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك ، وشحذ طباعك ، وبسط لسانك ، وجوَّ بنانك ، وفخَّم ألفاظك ، وبحبح نفسك ، وعمَّرَ صدرك ، ومنحك تعظيم العوامِّ ، وصداقة الملوك ، وعرفت به شهرٍ ما لا تعرفه من أفواهِ الرجال في دهْرٍ ، مع السلامة من الغُرْمِ ، ومن كدِّ الطلب ، ومن الوقوفِ ببابِ المكتسب بالتعليم ، ومن الجلوس بين يدي مَن أنت أفضلُ منه خُلُقاُ ، وأكرمُ منه عِرقاً ، ومع السلامة من مجالسة البغضاء ، ومقارنة الأغنياء .
والكتاب هو الذي يطيعك بالليل كطاعته بالنهار ، ويطيعك في السفر كطاعته في الحضَرِ ، ولا يعتلُّ بنومٍ ، ولا يعتريهِ كَلَلُ السهرِ ، وهو المعلِّمُ الذي إن افتقرت إليه لم يخْفِرْك ، وإن قطعت عنه المادة لم يقطعْ عنك الفائِدةَ ، وإن عزلته لم يدعْ طاعتك ، وإن هبَّت ريحُ أعاديك لم ينقلبْ عليك ، ومتى كنت معه متعلِّقاً بسبب أو معتصماً بأدنى حبْل كان لك فيه غنىً من غيره ، ولم تضرَّك معه وحشةُ الوحدة إلى جليسِ السوءِ ، ولو لم يكن من فضله عليك وإحسانه إليك إلاَّ منْعُه لك من الجلوس على بابِك ، والنظرُ إلى المارة بك . مع ما في ذلك من التعرُّض للحقوق التي تلزم ، ومن فضولِ النظرِ ، ومن عادةِ الخوْضِ فيما لا يعنيك ، ومن ملابسةِ صغارِ الناسِ ، وحضورِ ألفاظهم الساقطة ، ومعانيهم الفاسدة ، وأخلاقِهم الرديئة ، وجهالاتهم المذمومة . لكان في ذلك السلامةُ ثم الغنيمةُ ، وإحرازُ الأصل مع استفادةِ الفرْعِ ، ولو لم يكن في ذلك إلا أنه يشغلك عن سخف المُنى ، وعن اعتياد الراحةِ وعن اللَّعبِ ، وكل ما أشبه اللعب ، لقد كان على صاحبه أسبغ النعمة وأعظم المِنَّةَ .
وقد علمنا أن أفضل ما يقطع به الفُرَّاغُ نهارهم ، وأصحاب الفكاهات ساعاتِ ليلهم : الكتابُ ، وهو الشيء الذي لا يُرى لهم فيه مع النيل أثر في ازدياد تجربة ولا عقل ولا مروءة ، ولا في صوْن عِرض ، ولا في إصلاح دينٍ ، ولا في تثمير مال ، ولا في رب صنيعةٍ ولا في ابتداءِ إنعامٍ .
* أقوالٌ في فضل الكتاب :
وقال أبو عبيدة : قال المهلَّب لبنيه في وصيته : يا بَنِيَّ ، لا تقوموا في الأسواق إلا على زرَّاد أو ورَّاق .
وحدّثني صديق لي قال : قرأتُ على شيخ شامي كتاباً فيه من مآثرِ غطفان ، فقال : ذهبتِ المكارم إلا من الكتب . وسمعتُ الحسن اللؤلؤي يقول: غبرتُ أربعين عاماً ما قِلتُ ولا بتُ ولا اتكأتُ ، إلا والكتاب موضوع على صدري .
وقال ابن الجهم : إذا غشيني النعاس في غير وقت نوم . وبئس الشيء النوم الفاضل عن الحاجة . تناولتُ كتاباً من كتب الحِكم ، فأجدُ اهتزازي للفوائد ، والأريحية التي تعتريني عند الظفر ببعض الحاجة ، والذي يغشى قلبي من سرور الاستبانة ، وعزُّ التبين أشدُّ إيقاظاً من نهيقِ الحميرِ ، وهدَّةِ الهَدْمِ .
وقال ابنُ الجهم : إذا استحسنتُ الكتاب واستجدتُه ، ورجوتُ منه الفائدة ، ورأيتُ ذلك فيه ، فلو تراني وأنا ساعة بعد ساعة أنظرُ كم بقي من ورقة مخافة استنفاده ، وانقطاع المادة من قلبه ، وإن كان المصحفُ عظيم الحجمِ كثير الورقِ كثير العددِ فقد تمَّ عيشي وكمل سروري .
وذكر العتبي كتاباً لبعض القدماء فقال : لولا طولُه وكثرةُ ورقِهِ لنسختُه . فقال ابن الجهم : لكني ما رغَّبني فيه إلا الذي زهَّدك فيه ، وما قرأتُ قطُّ كتاباً كبيراً فأخلاني من فائدة ، وما أحصي كم قرأتُ من صغار الكتب فخرجتُ منها كما دخلتُ ! .
وأجلُّ الكتب وأشرفها وأرفعها : ﴿ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ .
* فوائد القراءة والمطالعة :
1. طردً الوسواسِ والهمِّ والحزنِ .
2. اجتنابُ الخوضِ في الباطلِ .
3. الاشتغالُ عن البطَّالين وأهلِ العطالةِ .
4. فتْقُ اللسان وتدريبٌ على الكلام، والبعدُ عن اللَّحْنِ، والتحلِّي بالبلاغةِ والفصاحةِ.
5. تنميةُ العَقْلِ ، وتجويدُ الذِّهْنِ ، وتصفيةُ الخاطِرِ .
6. غزارةُ العلمِ ، وكثرةُ المحفوظِ والمفهومِ .
7. الاستفادةُ من تجاربِ الناسِ وحكمِ الحكماءِ واستنباطِ العلماءِ .
8. إيجادُ المَلَكَةِ الهاضمةِ للعلومِ ، والمطالعةُ على الثقافات الواعية لدورها في الحياة .
9. زيادةُ الإيمانِ خاصَّةً في قراءة كتبِ أهلِ الإسلامِ ، فإن الكتاب من أعظم الوعَّاظ ، ومن أجلِّ الزاجرين ، ومن أكبر الناهين ، ومن أحكمِ الآمرين .
10. راحةٌ للذِّهن من التشتُّتِ ، وللقلب من التشرذُمِ ، وللوقتِ من الضياعِ .
11. الرسوخُ في فَهْمِ الكلمةِ ، وصياغةِ المادةِ ، ومقصودِ العبارةِ ، ومدلولِ الجملةِ ، ومعرفةِ أسرارِ الحكمةِ .
فروحُ الروحِ أرواحُ المعاني
وليس بأنْ طعمت ولا شربتا
وقفــة
مرض أبو بكرٍ رضي الله عنه فعادوه ، فقالوا : ألا ندعو لك الطبيب ؟ فقال : قد رآني الطبيب . قالوا : فأيُّ شيء قال لك ؟ قال : إني فعّالٌ لما أريدُ .
قال عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه : وجدنا خَيْرَ عيشنِا بالصبرِ .
وقال أيضاً : أفضلُ عيشٍ أدركناه بالصبر ، ولو أنَّ الصبر كان من الرجالِ كان كريماً .
وقال عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه : ألا إن الصَّبْرَ من الإيمان بمنزلة الرأسِ من الجسدِ ، فإذا قُطع الرأسُ بار الجسمُ ، ثم رَفَعَ صوتَه فقال : إنه لا إيمان لمن لا صَبْرَ له . وقال : الصبرُ مطيَّةٌ لا تَكْبُو .
وقال الحسن : الصبر كَنْزٌ من كنوزِ الخيرِ ، لا يعطيه اللهُ إلا لعبدٍ كريمٍ عنده .
وقال عمرُ بنُ عبدالعزيز : ما أنعم اللهُ على عبدٍ نعمةً ، فانتزعَها منه ، فعاضه مكانها الصبر ، إلاَّ كان ما عوَّضه خيراً مما انتزعهُ .
وقال ميمون بنُ مهران : ما نال أحد شيئاً من ختمِ الخيرِ فيما دونه إلا الصبر .
وقال سليمان بنُ القاسم : كلُّ عمل يُعرف ثوابه إلا الصبرَّ ، قال تعالى : ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ قال : كالمال المنهمر .