بسم الله الرحمن الرحيم
تعكسُ اهتماماتُنا وتطلُّعاتنا وتفكيرنا منهجنا في الحياة، والطَّريق الذي نسيرُ فيه، أو نوَدُّ أن نسير فيه، وهو بعد ذلك يُعطي قيمةً لحياتنا، ويعكس قيمتنا في الحياة، ودعوني أطرحْ بعضَ الأسئلة في هذا المجالِ؛ حتَّى يعرفَ كلُّ واحد منَّا أين يقف بالضَّبط، وهل يقفُ بالمكان الصحيح، أو أنَّه أجبر على الوقوف بهذا المكان.
وهذه الأسئلة تأتي على النحو التالي:
هل تعتقد أن مَنصبَك الوظيفي يُمثِّل قيمةً كُبرى واهتمامًا أعلى في تفكيرك؟
هل تعتقدُ أنَّ السيَّارة التي تقودُها تعطيك قيمةً أكبر؟
هل تعتقدُ أن رصيدَك في البنك يُمثل أولوية لديك، ويَطغى على كثيرٍ من جوانب تفكيرك واهتماماتك؟
هل تعتقد أنَّ قُربك وبُعدك من الله يشكِّل معيارًا ومقياسًا مُهمًّا يُؤثر على سلوكك، وتنتجُ عنه تصرُّفاتك، أو أنَّ علاقتك بالله - عزَّ وجل - تأخذ طَابع الشكليَّة وأداء الفرائض والعبادات، ومنها الصلاة بطريقة رُوتينيَّة؟
ما الأشياءُ التي تغبط عليها الآخرين، وتودُّ أن تكون لديك؟
لو أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - توفَّاك الآن، فهل أنتَ راضٍ أنْ تقابلَ الله - عزَّ وجلَّ - على وضعك الحالي؟
ومَن يفكر في الإجابة المثاليَّة على الأسئلة السَّابقة، فلا يقلق فسوف يجد إجاباتها في هذا المقال.
هذه الأسئلة مُهمَّة ومحورية للتفكير بطريقة مُختلفة عمَّا هو سائدٌ لدى كثير من النَّاس، والذي يستطيعُ الإجابةَ عنها بوعي وعقلانيَّة يكون قد اقتربَ كثيرًا من الخير والفَوز في الدُّنيا والآخرة، وبعد الإجابةِ عنها يأتي السُّؤال بكيف يكون ترتيب أولويَّاتي وأولوياتك الشخصيَّة؟
وقبلَ أنْ تبدأ - عزيزي القارئ - في ترتيب أولويَّاتك، دعني أسألك هذا السؤال:
مَن أهم شخص في حياتك؟
بالنسبة لي أهم شخص في حياتي هو أنا، وليس أبي أو أمي، أو أخي أو عائلتي، وليس في ذلك أنانية؛ وقد قال - تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34- 37].
وحتَّى نُحدِّد الأولويَّات بشكل سليم، دعونا نستعدَّ للسفر على الرحلة المتجهة إلى مدينة الحقيقة، والوعي، والإدراك الصادق، وليس إلى عالم الزَّيف والأكاذيب، وتزييف الوَعْي وتغييب الحقائق، كما يطرحه الإعلامُ بكافة أشكاله، المرئي والمقروء والمسموع، وبما تطرحه العَوْلمة من آليَّات لحضِّ الإنسان على مزيد من الاستهلاك، والاتِّجاه نحو المادة التي تعتبر عند أهل المادة معيار اللَّذة والسَّعادة الوحيدَين.
والرِّحلة المتجهة إلى مدينة الحقيقة والوعي والإدراك الكامل تفترض منك أنْ تَحمل ثلاث حقائب فقط لا غير، وهذه الحقائب هي أهم ثلاثة أشياء في حياتك، فرُبَّما تكونُ عند أحدهم أهم ثلاثة أمور في حياته هي الأسرة والوظيفة والمسكن، وعند آخر المنصب والشُّهرة والمال، وعند آخر حفظ كتاب الله وبر الوالدين والصدق، لا علينا فكُلُّ شخصٍ يفترض أن تكونَ لديه أولوياته، وسُؤالي لك - والذي أفترض أنَّك قد حددته سلفًا -
ما أهمُّ ثلاثة أشياء في حياتك؟
وإذا لم تكن لديك إجابة سابقة، فإنِّي أفترض منك التفكيرَ لعدَّة دقائق؛ لتحديد أهم ثلاثة أمور في حياتك.
ولا تَقُلْ: سوف أحملُ أربعَ حقائب تُمثل أهمَّ أربعة أمور في حياتي، فقانون الرِّحلة يجبرك على حمل ثلاث حقائب فقط.
والآن وبعدَ أن وقفْت عند مُوظَّف الشَّحن في المطار؛ لشحن حقائبك على الرِّحلة المتجهة لمدينة الوعي والإدراك، يُخبرك مُوظف الشحن أن لديك وزنًا زائدًا، ولا يُمكن أن تَحمل معك في الرحلة سوى حقيبتين فقط، وهاتان الحقيبتان تُمثِّلان أهمَّ أمرين في حياتك، فتضطر للتخلي عن إحدى الحقائب، وبعد إقلاع الرِّحلة يحدث خَلَلٌ بالطائرة، ويُعلن (كابتن) الطائرة من خلال مُكبر الصَّوت أن هناك مشكلةً فنية بالطائرة تفترض تخفيف الوزن بالطَّائرة، وعلى كلِّ راكب أن يتخلَّى عن حقيبة واحدة، ويبقى لديه حقيبة واحدة، وهذه الحقيبة الواحدة تُمثل أغلى وأهم شيء في حياته.
وبعد أنْ يتبقى حقيبة واحدة فقط يُخبرك علماءُ النفس أنَّ هذه الحقيبة الواحدة المتبقية لديك، والتي تُمثل أولوية وأهمية كُبرى في حياتك - هي أكبر قضية في حياتك قد قصَّرت فيها
فهل نعودُ للتفكير من جديد في أولويَّاتنا؟
إنَّها الأولويَّة التي تُهاجمها في عقولنا أغلب أدوات العَوْلمة والإعلام الحديث، وتُحاول صرف الذِّهن عنها؛ لإشغال كلِّ فرد منَّا بأمر ما يهتمُّ به طوال حياتِه، وينصرفُ له عقله وجُهده وذهنُه وتفكيرُه؛ حتَّى لا يفكرَ في القضايا الكُبرى، والهَدَفُ من خلق الإنسان، وما يحمله من تكليف، فكُلُّ فرد - في الغالب - قد وُضِعَ في إطارٍ يدور فيه، ويقضي فيه مُعظم أوقاته، مع أنَّ الوقت هو الحياة، فأحدهم قد انشغل بالرِّياضة وكرة القدم، وهو يبغض ويُحب في الله بسببها.
وأعجبُ ما تعجب أنْ ترى في ملتقيات الشباب مَن يدعو أفرادَ فريقِه إلى كثرة الاستغفار ودُعاء الله - عزَّ وجل - حتَّى يفوزَ فريقُه المفضَّل، وتجد لدى أنصار الفريق الآخر مَن يطلب من مُؤيِّدي فريقه كثرة الاستغفار؛ حتَّى يفوز فريقه، هذا الاستغفارُ الذي قال الله - عزَّ وجلَّ - فيه:
{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10- 12].
فجعله الله - عزَّ وجلَّ - سببًا بعد التوكُّل عليه - سبحانه - في هطول المطر، ووفرة الرِّزق، والمدد بالبنين، وهو بعد ذلك موصل للجنَّات والأنهار، وهذا الاستغفارُ - وبسبب هذا التيار الإعلامي الرِّياضي الجارف الذي غسل عقول كثير من الشباب - أصبحَ وسيلة وطريقًا فقط؛ حتَّى يفوزَ فريقه المفضل، شاهت العقول!
هناك الذي انشغلَ بالرِّياضة، وهناك مَن طحنتْه الوظيفة، فهو يُوالي لها، ويغضبُ لها، ولا تسَعُه الدُّنيا من الفرح إنِ ابتسمَ في وجهه مسؤولُ الجهة التي يعملُ لديها، وكلُّ حياته تدور حول هذه الوظيفة، ومنهم مَن يدورُ في حلقة المال، فلا يرى في الدُّنيا طريقًا غير هذه الطريق، ومنهم مَن شغله طلبُ الشُّهرة والجاه والمنصب عن كثير من أمور حياته وأمور دينه، ومنهم من شغله الشِّعر ومتابعةُ مَجَلاَّته وأخباره وقنواته الفضائيَّة، ومنهم مَن شغلته الأغاني، ومنهن من شغلتها (الموضة، والمكياج)، ومنهم مَن شغله التعليمُ والحصول على الشَّهادات العُليا؛ لتحقيق بعض المنافع الدنيويَّة، ومنهم من أدمن متابعة الأفلام فلا يقيمُ حقوقًا لله، ولا للنَّاس، ولا يعرف واجبات، ومنهم مَن شغلته السياسة، وهكذا دواليك، والمهم في هذا كُلِّه أنَّ وعيَ كلِّ واحد منهم منتهكٌ بما يناسبه ويوافق هواه، وبما يتفق مع رغباته وميوله.
كُلُّ واحد منهم قد دعاه إبليسُ إلى ما يوافق هواه ورغبته، لا يهم طريق الضَّلال؛ ولكن المهم هو النَّتيجة التي يُريدها، وهي البعد عن الله - عزَّ وجل - وقد قال الله - تعالى - فيه: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22].
وإنَّ غياب الوعي في المفهوم القرآني يعني الغَفْلة، فمن كان أغلب وعيه وتفكيره مع كرة القدم أو الأغاني أو الأفلام أو الوظيفة أو المال، فهو واقعٌ في الغفلة، التي حذَّر الله - عزَّ وجل - منها بقوله - تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22].
والمشكلة الكبرى التي لا يعيها ولا يدركها كثيرٌ من الناس: أنَّه عندما يتخذ قرارًا يُخالف مقصود الله - عزَّ وجلَّ - أو يتَّبع فيه هواه ورغباته، وأنَّه يعتقد أنَّه عندما اتَّخذ القرار كان عن اقتناع منه، وأنه ناتج عن تفكيره، ولا يعلمُ أن الذي اتَّخذ القرار هو إبليس، وهو وافق على هذا القرار بدون أن يدركَ ويعيَ أن الذي اتخذ القرار غيره؛ وقد قال - تعالى: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم: 22]، فقد دعاه إبليسُ إلى أمر من الأمور، ثُمَّ استجاب.
والذي لا زال يُفكِّر في الأسئلة التي وردت في أوَّل المقال، ويبحث عن إجاباتها، فقد أوضح المولى - عزَّ وجلَّ - جوابها في هذه الآية الكريمة: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20].
وسؤالي: ما أهمُّ حقيبة لديك؟ وكيف ستتصرف تجاهها في المستقبل؟
إنَّ أهمَّ حقيبةٍ لديك هي التي تُحدد قيمتك في الحياة الدُّنيا وفي الآخرة
وإنْ سألتموني عن أهم حقيبة لديَّ،
فسأقول لكم: إنَّها عَلاقتي بالله - عزَّ وجل.