لمحات من سيرة عثمان بن عفان من الولادة إلى الشهادة
هو: عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب1ينتسب إلى بني أُميّة؛ إحدى القبائل القرشية.ولد في مكة، بعد عام الفيل بستّ سنين على الصحيح2 ونشأ على الأخلاق الفاضلة الكريمة، والسيرة الحسنة الحميدة، وكان حيياً، شديد الحياء3 عفيف النفس، واللسان، أديب الطبع، هادئاً يتجنب إيذاء الناس، ويميل إلى الهدوء، ويكره الفوضى، والشجار، والصخب، وقد يضحّي في سبيل البعد عن ذلك ولو بحياته4.ولحسن خلقه، ومعاملته؛ أحبته قريش حتى ضربت العرب المثل بحبها له.وفي ذلك يقول الشعبي: "كان عثمان في قريش محبباً يوصون إليه، ويعظمونه، وإن كانت المرأة من العرب تُرقِّص صبيها وهي تقول:أُحِبُّك والرحمن حبَّ ... قريش لعثمان5نشأ عثمان رضي الله عنه وأطل على هذه الحياة، وهو بين مشركي
قريش الذين يعبدون الأصنام، فنبذ في نفسه ما هم عليه من شرك ووثنية، وعادات قذرة.
فتجنب أرجاسهم الجاهلية، فلم يزن، ولم يقتل قط1ولما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله، ودخل أبوبكر الصديق في الإسلام، ذهب إلى عثمان رضي الله عنهما يدعوه إلى الإسلام، فتأمل عثمان في هذه الدعوة بهدوء كعادته في معالجة الأمور، فوجد أنها دعوة إلى الفضيلة، ونبذ الرذيلة، دعوة إلى التوحيد، وتحذير من الشرك، دعوة إلى العبادة وترهيب من الغفلة، ودعوة إلى الأخلاق الفاضلة، وترهيب من الأخلاق السيئة.
ثم نظر إلى قومه، فإذا هم يعبدون الأوثان، ويأكلون الميتة، ويسيئون الجوار، ويستحلون المحارم من سفك الدماء وغيرها2.
وإذا بالنبي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم صادق أمين، يعرف عنه كل خير، ولا يعرف عنه شر قط، فلم تُعهد عليه كذبة، ولم تحسب عليه خيانة، فإذا هو يدعو إلى عبادة الله وحده، لا شريك له، وإلى صلة الرحم، وحسن الجوار، والصلاة والصوم، وألا يعبد غير الله3.
فأسلم عثمان على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه فكان من السابقين الأولين إلى الإسلام1.
فلم يدعه قومه، بل آذوه، وعذبوه مع إخوانه المؤمنين السابقين إلى الإسلام، وعدوا عليه، وفتنوهم في دينهم ليردوهم إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن يستحلوا من الخبائث، فلما ازداد عليهم الأذى والتعذيب، وقهروهم، وظلموهم وضيقوا عليهم، وحالوا بينهم وبين دينهم2خرجوا إلى الحبشة، وفي مقدمتهم عثمان بن عفان رضي الله عنه ومعه زوجه رقية بنت النبي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها3 فكان أول من هاجر بأهله من هذه الأمة4.
فرَّ بدينه تاركاً وطنه وأهله، في سبيل التمسك بدينه وعقيدته، مما يبين مدى إيمانه ويقينه وتعلقه بربه وآخرته.
تحمل الغربة، وفقد مركزه التجاري، ومكانته الاجتماعية، بين أهل مكة، وشخصيته المرموقة، وانتقل إلى بلاد غير بلاده لله، وفي الله لا لتجارة دنيوية، ولا لربح مادي، إنما لتجارة أخروية؛ للفوز بالجنة والنجاة من النار
ثم لما أشيع أن أهل مكة قد أسلموا، وبلغ ذلك مهاجري الحبشة، أقبلوا حتى إذا دنوا من مكة، بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلاً، فدخلوا في جوار بعض أهل مكة، وكان فيمن رجع عثمان بن عفان وزوجه رقية رضي الله عنهما1.
وبقي عثمان في مكة، يلقى الأذى والقهر من أهل مكة، ولم يرده ذلك عن دينه حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة النبوية ومعه الصحابة رضي الله عنهم فهاجر معهم عثمان، فكان ممن هاجر الهجرتين2.
وثبت رضي الله عنه على إيمانه، بل كان إيمانه يزداد يوماً بعد يوم، ومكث في المدينة، لا يفارقها إلا ويسارع إلى العودة إليها، فقد صحح الحافظ ابن حجر عنه أنه كان لا يودع النساء -أي:وهو خارج من مكة- إلا على ظهر راحلته، ويسرع الخروج خشية أن يرجع في هجرته3.
وكان له في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مكانة عالية، يعرفها الصحابة - رضوان الله عليهم - وينزلونه إياها، وفي ذلك يقول ابن عمر رضي الله عنهما: "كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً ثم عمر ثم عثمان
ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم "1.
ومما يبين مكانة عثمان رضي الله عنه عند النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ذات يوم قاعداً في مكان فيه ماء قد كشف عن ركبتيه (أو ركبته) فلما دخل عثمان غطاها2.
وكان ذات يوم مضطجعاً في بيت عائشة -رضي الله عنها- كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبوبكر، ثم عمر، وأذن لهما، وهو على حالته، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوى ثيابه، فقالت له عائشة رضي الله عنها في ذلك، فقال: "ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة " 3
وكان يقول أيضاً: "إنه رجل حيي" 1.
ولم يكتف عثمان رضي الله عنه بالقيام بفرائض الإسلام من صلاة وصيام ودفع الزكاة بل قدم الغالي والرخيص في سبيل نشر الإسلام، ونصرة المسلمين؛ فقد بذل في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكثير من ماله، نصرة للإسلام وعوناً للمسلمين.
فمن ذلك أنه لما قدم المهاجرون إلى المدينة، لم يكن بها ماء يستعذب غير بئر تسمى(رومة)2ولم يكن يومئذ مال للمسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يشتري بئر رومة، فيجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير منها في الجنة" ، فاشتراها عثمان رضي الله عنه من صلب ماله"3.
ومن ذلك ما كان منه في غزوة تبوك، فلما تهيأ النبي صلى الله عليه وسلم للغزوة نقصت المؤن فقال: "من جهز جيش العسرة فله الجنة" ، فلما سمع عثمان ذلك، وكان رجلاً موسراً جهزه.
فجاء وهو يحمل ألف دينار، فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل -عليه
الصلاة والسلام- يقلبها بيده ويقول: "ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم، يرددها مراراً" 1.
وشهد رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم المواقع كلها، فلم يتخلف عن غزواته إلا بأمر منه في غزوة بدر.
فقد أمره بالبقاء في المدينة، لتمريض2 زوجه رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وضرب له بسهم في الغنيمة والأجر، فامتثل الأمر وبقي في المدينة يمرضها، فلما توفيت3وخرج لدفنها، جاء البشير بانتصار المسلمين في بدر، فلما عاد النبي صلى الله عليه وسلم زوجه بأختها أم كلثوم رضي الله عنها فلذلك كان يلقب بذي النورين4.
واستمر عثمان رضي الله عنه على ذلك طوال العهد النبوي، وكان عليه الصلاة والسلام يخبره ويخبر غيره من الصحابة رضوان الله عليهم المرة تلو الأخرى، بأن فتنة ستقع يكون فيها عثمان وأصحابه على الحق، ويشير عليهم باتباعه عند وقوعها
وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع هذه الفتنة التي يقتل فيها عثمان رضي الله عنه، يُعدّ ضمن قائمة كبيرة من الحوادث التي أخبر - عليه الصلاة والسلام- في حياته بأنها ستقع بعد وفاته1 ووقع عدد منها، وما بقي منها سيقع حتماً ولو بعد حين.
ولا يدل ذلك على علم النبي صلى الله عليه وسلم بالغيب فإن علم الغيب صفة من صفات الله جل وعلا، ليست لأحد من خلقه، وإنما ذلك علم أطلعه الله عليه وأمره أن يبينه للناس، كما أمره أن يبين للناس أنه لا يعلم الغيب المستقبل، وأنه لا اطلاع له على شيء من الغيب إلا ما أطلعه هو عليه2.
وذلك في قوله تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 3.
وهذه المشيئة منه سبحانه وتعالى تعمُّ الرسول الملكي والبشري. وبذلك يفهم قوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَاشَاءَ} 1.
وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} 2.
فمما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقوع فتنة يقتل فيها عثمان بن عفان رضي الله عنه، ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: "ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة، فمر رجل فقال: يقتل فيها هذا المقنع يومئذٍ، قال: فنظرت، فإذا هو عثمان بن عفان"3.
ويروي كعب بن مرة4 البهزي رضي الله عنه قصة مشابهة لهذه القصة، فقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فتنة فقرَّبها: فمرّ عثمان مقنَّعاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يشير إلى عثمان: "هذا يومئذ وأصحابه على الحق والهدى" .
وسواء أكانت هاتان الروايتان لقصتين اثنتين أم لواحدة، فإنَّ إخبارالنبي صلى الله عليه وسلم بقتل عثمان رضي الله عنه في هذه الفتنة ثابت في كلتا القصتين، وتضيف رواية كعب بأنه وأصحابه على الحق في هذه الفتنة.
مما دفع كعباً إلى زيادة التحري من الشخص المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم فقام إلى هذا الرجل، وأخذ بضبعيه، فإذا هو عثمان بن عفان، فاستقبل به النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هذا؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هذا1.
وقد تأخرت وفاة كعب رضي الله عنه إلى ما بعد الخمسين من الهجرة، ولم يرد أنه حضر يوم الدار ليخبر بهذا الحديث الناس ليرجع المغرر به منهم، فلعله كان في الشام حيث إنَّ وفاته كانت فيها.
ويبدو أنَّ تحديث كعب للناس بهذا الحديث، لم يكن إلا بعد الفتنة بسنوات، نستشف ذلك من خلال رواته عنه، فقد رواه عنه كل من: محمد بن سيرين2 وعبد الله بن شقيق3 وأبو الأشعث الصنعاني4
ومحمد بن سيرين ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان رضي الله عنه، فإذا قدرنا سماعه منه وهو في الرابعة عشرة، فإنه يكون قد حدثه به بعد الفتنة باثنتي عشرة سنة.أما رواية أبي الأشعث فجزماً بأنها كانت، بعد الفتنة، فإن مضمون الرواية ينص على أنها كانت في خلافة معاوية رضي الله عنه، وعبد الله بن شقيق من طبقتهما.
ومنها ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه وذلك عندما استأذن عثمان يوم الدار للحديث، فلما أذن له قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنكم تلقون بعدي فتنة واختلافاً، فقال قائل من الناس: فمن لنا يا رسول الله؟، فقال: عليكم بالأمين وأصحابه وهو يشير إلى عثمان بذلك" 1.
ومن هذه الروايات ما يحدد فيه النبي صلى الله عليه وسلم تاريخ وقوع هذه الفتنة وذلك فيما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تدور رحى 2 الإسلام على رأس خمس وثلاثين أو ست وثلاثين، أو سبع وثلاثين..."
3
فهذا الحديث، يدل دلالة واضحة على أن الفتنة ستقع في سنة من هذه السنوات الثلاث. ويحتمل أن الشك إنما أتى من قبل أحد رواة الحديث، وعلى فرض صحة نسبة الشك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فالمعنى: أن ذلك يكون فيما يشاء الله عز وجل من تلك السنين.
ويحتمل أن يكون في الحديث تصحيف، وذلك بزيادة الهمزة قبل الواو، وأن الواو للعطف، فتكون هذه السنوات الثلاث كلها سني فتنة، والتاريخ يشهد لذلك فقد وقعت في هذه السنوات الثلاث، فتنة قتل عثمان رضي الله عنه، والفتن التي قامت في عهد علي رضي الله عنه وموقعة الجمل، وصفين.
وشاء الله ذلك في السنة الخامسة والثلاثين، باشتعال الفتنة التي انتهت بقتل عثمان رضي الله عنه1.
ومن هذه الأحاديث ما يقرن فيه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الفتنة بفتنة الدجال من حيث قوة اجتذابها للناس، وافتتانهم بها، وأن من ينجو منها فقد نجا.
وذلك فيما رواه عبد الله بن حوالة2 رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال:
"من نجا من ثلاث فقد نجا - ثلاث مرات - موتي، والدجال، وقتل خليفة مصطبر بالحق معطيه" 1.
ومعلوم أن الخليفة الذي قُتل مصطبراً بالحق، معطياً القتل، أو الحق إنما هو عثمان بن عفان رضي الله عنه.
فالقرائن تدل على أن الخليفة المقصود بهذا الحديث، هو عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وفي الحديث - والله أعلم - لفتة عظيمة، إلى أهمية السلامة من الخوض في هذه الفتنة حسياً ومعنوياً، أما حسياً فذلك يكون في زمن الفتنة، من تحريض وتأليب، وقتل وغير ذلك.
وأما معنوياً فبعد الفتنة من خوض فيها بالباطل، وكلام فيها بغير حق، وبهذا يكون الحدث عاماً للأمة، وليس خاصاً بمن أدرك الفتنة والله أعلم.
ومن الأحاديث التي أخبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم عن وقوع استشهاد عثمان بن عفان رضي الله عنه ما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يبشر عثمان بالجنة على بلوى تصيبه1.
وما روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ذات يوم على أحد2 ومعه أبوبكر، وعمر، وعثمان، فرجف الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"اسكن أحد فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان" 3.
فالنبي والصديق معروفان، ولم يبق لعمر وعثمان رضي الله عنهما إلا الصفة الثالثة، وهي الشهادة. فهذه شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم صريحة لعثمان رضي الله عنه بالاستشهاد في سبيل الله، وقد تكررت هذه الشهادة في قصة أخرى مرة ثانية، وعلى جبل آخر، وهو حراء4.
فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ذات يوم على حراء ومعه أبوبكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير فتحركت الصخرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اهدأ فما عليك إلا نبي، أو صديق، أو شهيد" 1.
وتحقق ما قاله صلى الله عليه وسلم فقد استشهد كل من عمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير.
ولعلم النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع هذه الفتنة - بإخبار الله له -، ولشدة محبته لعثمان رضي الله عنه، وحرصه على مصالح الأمة بعده، دعاه - ذات يوم - وأخبره بأشياء تتعلق بهذه الفتنة التي ستنتهي بقتله، وحرص عليه الصلاة والسلام على سرِّيتها، حتى إنه لم يصل إلينا منها إلا ما صرح به عثمان رضي الله عنه أثناء الفتنة لما قيل له: ألا تقاتل؟ فقد قال: لا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليّ عهداً، وإني صابر نفسي عليه2.
ويظهر من قوله هذا، أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أرشده إلى الموقف الصحيح، عند اشتعال الفتنة، وذلك أخذاً منه صلى الله عليه وسلم بحجز الفتنة أن تنطلق.
وفي بعض الروايات زيادة تكشف عن بعض مكنون هذه المسارَّة، فقد جاء فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "وإن سألوك أن تنخلع من قميص قمصك الله عز وجل فلا تفعل " 1.
ولا يدل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى عثمان رضي الله عنه بعهد فيه خلافة، أو نحوها، كما يعتقد الروافض في علي رضي الله عنه، بل مضمون هذا العهد الذي ذكره عثمان رضي الله عنه يتعلق بالفتنة، والوصية بالصبر فيها وعدم الخلع كما تقدم.
وإن كان يفهم من هذه الأحاديث بأنه سيكون خليفة يوماً ما.
ويبدو أن هناك وصايا، وإرشادات تتعلق بهذه الفتنة، انفرد بمعرفتها عثمان رضي الله عنه، وذلك محافظة من النبي صلى الله عليه وسلم على السرِّية فيها، ومما
يبين ذلك أنه أمر عائشة رضي الله عنها بالانصراف1 عندما أراد الإسرار بها لعثمان رضي الله عنه.
كما أنه أسرَّ إليه إسراراً، رغم خلو المكان من غيرهما، حتى تغير لونه، مما يدل على عظم المسرِّ به، وربط عائشة رضي الله عنها هذا الإسرار بالفتنة دليل واضح على أن هذه المسارة كانت حول الفتنة التي قتل فيها.
فإنها رضي الله عنها كانت تسمع بعضاً منها، وفي ذلك تقول: فلم أحفظ من قوله إلا أنه قال: "وإن سألوك أن تنخلع من قميص قمصك الله عز وجل فلا تفعل"2.
وهذا دليل على أن الإسرار تضمن توجيهات منه صلى الله عليه وسلم، إلى عثمان ليقف الموقف الصحيح عند عرض الخلع عليه.
وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتصر فيه على الإخبار بوقوع الفتنة، فقد أخبر بذلك علانية - كما تقدم - فإسراره يدل على أن هذا الإسرار، تضمن أشياء أخرى زيادة على الإخبار عن وقوعها، ورغب عليه الصلاة والسلام بالمحافظة على سريتها لحكمة اقتضت ذلك الله أعلم بها.
__________1 ابن سعد، الطبقات (3/ 53)، وابن حجر، الإصابة (2/ 462).2 ابن حجر ، الإصابة (2/ 462).3 ستأتي شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بأنه رجل حيي، وانظر الزهد للإمام أحمد بن حنبل (2/39)، وحلية الأولياء لأبي نعيم (1/56).4 كما سيأتي في تضحيته بنفسه وإيثاره ذلك على قتال الخارجين عليه.5 رواه ابن الأعرابي في معجمه (ق88أ) ومن طريقه ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان 245، من طريق مجالد بن سعيد عن الشعبي به
.