تكاليف الوالدين بواجب التربية
يولد الطفل على الفطرة ويفتح عينه على الحياة ليرى أمه وأباه يحوطانه بكل شيء وينظر إلى الوجود من خلالهما ، ويبصر الكون بأعينهما ، ويستقر في قرارة نفسه بأن الأب والأم هما كل شيء في العالم ، فيستمد منهما العطف والحنان ، ويتوجه إليهما للحماية والرعاية ، ويلجأ إليهما في كل صغيرة وكبيرة ، وتنساب أسئلته بالاستفسار كالسيل المدرار ، حتى يعجز كثير من الآباء والأمهات عن الجواب ، ويقنع الولد بكل جواب ، ويصدق – بجزم وبدون ريب ولا شك ولا تردد ، ولا تحفظ ولا مناقشة – كل ما يسمع من والديه ، مهما كانت الأفكار سخيفة أم رائعة ، كاذبة أو صادقة ، ويكون عقل الطفل في مرحلة الطفولة الأولى كالطين ، يمكن للأب أن يشكلها كما يشاء ، وتكون نفسه كالصفحة البيضاء تخط فيها الأم ما تشاء ، وتثبت عليها ما تريد ، ويمتاز الطفل – في هذه المرحلة – بحب التقليد والمحاكاة لتحركات والديه وتصرفاتهما ، لذا يتحمل الوالدان المسئولية الأولى عن تصرفات أولادهما في الصغر ، كما يتحملان المسئولية الأولى عن التربية والإعداد والتثقيف والتوجيه لما يحبه الله ويرضاه ، وقد خصهما رسول الله r بهذه المسئولية في الحديث الصحيح : (( والرجل راع على أهل بيته ، وهو مسئول عنهم ، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده ، وهي مسئولة عنهم )) ([1]) .
فالمسئولية على الوالدين عظيمة ، وتترتب عليها نتائج خطيرة في الدنيا والآخرة ، فيلتزم الوالدان أن ينشآ أولادهما على الإيمان الكامل ، والعقيدة الصحيحة ، وأن يعوداهما على التكاليف الشرعية والآداب الإسلامية والأخلاق الفاضلة .
وإن إعداد الجيل المؤمن الصالح يقع على عاتق الآباء والأمهات أولا ، لأن الطفل ينظر إلى والديه وكأنهما المثل الأعلى ، ويلتف حولهما ، ويطرح عليهما الأسئلة ، ويعتقد أنهما يحوزان العلم اللدني ، وأنهما كل شيء في الوجود فهما الأنا الأعلى بالتعبير التربوي الحديث ، ويتلقى الطفل منهما في بدء حياته كل توجيه لقناعته الكاملة بكل ما يقولان وتسيطر على أحاسيسه تعابير والديه ، ولا يقتصر الأمر على التوجيه المباشر ، بل يقلد والديه في أشياء كثيرة سواء كانت حسنة أم سيئة بطريق مباشر أم غير مباشر ويستحوذ على فكره اللاشعوري كثير من تصرفات الوالدين في الرضا والغضب في الحب والكره ، في السعادة والشقاوة ، وإن هذه الظروف العامة المحيطة ، والقناعة المطلقة ، لا تتوفر في أي مرحلة من مراحل التربية كما تتوفر للطفل في أسرته ومع والديه ، بالإضافة إلى الدوافع الفطرية بالمحبة المتبادلة والتضحية اللامتناهية مع الآباء والأمهات لأولادهم ، وأنهم أمل المستقبل وسبيل البقاء والاستمرار ، لذلك كانت مسئولية الوالدين في التربية أول المسئوليات وأهمها أمام الله تعالى .
وقد صرح رسول الله r بوظيفة الوالدين في تربية الأولاد فقال عليه الصلاة والسلام : (( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه )) ([2]) وخاطب رسول الله r الآباء والأمهات ومن يقوم مقامهم في تطبيق الأحكام الشرعية المتعلقة بتربية الأولاد فقال عليه الصلاة والسلام في مجال التربية البدنية مثلا : (( علموا أولادكم السباحة والرماية والمرأة المغزل )) ([3]) ورغب رسول الله r الوالدين بتأديب الأولاد وأنهما يكسبان الأجر والثواب عند رب العالمين فقال عليه الصلاة والسلام : (( ما نحل والد ولد أفضل من أدب حسن )) ([4]) وعن جابر بن سمرة قال : قال رسول الله r : (( لأن يؤدب أحدكم ولده خير له من أن يتصدق كل يوم بنصف صاع على المساكين )) ([5]) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قالوا : يا رسول الله ، قد علمنا ما حق الوالد فما حق الولد قال : (( أن تحسن اسمه ، وتحسن أدبه )) وقال عبد الله بن عمر : (( أدب ابنك فإنك مسئول عنه ، ماذا أدبته وماذا علمته ، وهو مسئول عن برك وطواعيته لك ))
فإن تخلي الآباء والأمهات عن ذلك فقد لحقهم إثم كبير ووباء عريض ونالوا خسارة جسيمة وخانوا الأمانة التي وضعها الله في أيديهم ، وأضاعوا الوديعة التي كلفهم الله بحفظها وتحملوا مسئولية ذلك في الدنيا والآخرة ، لذلك حذر القرآن الكريم الآباء والأمهات من ذلك ، ونبههم إلى خطره وأنهم مسئولون عن أهلهم كمسئوليتهم عن أنفسهم بترك المعاصي وفعل الطاعات فقال تعالى ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [ [التحريم: 6].
قال الإمام علي كرم الله وجهه : (( أي علموهم وأدبوهم )) وقال الحسن البصري : (( مروهم بطاعة الله ، وعلموهم الخير )) ([6]) .
قال بعض أهل العلم : (( إن الله سبحانه وتعالى يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده ، فوصية الله للآباء بأولادهم سابقة على وصية الأولاد بآبائهم ، قال تعالى ] وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ [ [الإسراء: 31] وقال تعالى : ] يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ [ [النساء: 11]
وقال رسول الله r : (( اعدلوا بين أولادكم في النحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف )) ([7]) .
[b]