" والمشيئة والإرادة " وهاتان صفتان ثابتتان لله عز وجل .
فالمشيئة : صفة لله تبارك وتعالى ، فهو سبحانه يفعل ما يشاء ، والأمور كلها بمشيئته ، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن .
ومشيئة الله جل وعلا نافذة في كل شيء ، لا تتخلف ولا تُرد ، ولا معقب لها ، ما شاء الله لابد أن ينفذ ويقع وفقاً وطبقاً لما شاءه . لا يمكن أن يكون في الكون ذرة أو حركة أو سكون أو قيام أو قعود أو مرض أو صحة أو ضعف أو قوة أو إيمان أو كفر إلا بمشيئة الرب سبحانه وتعالى . كما قال ابن عباس رضي الله عنه :"كلُّ شيء بقدر ، حتى وضعك يدك على خدك"1 .
وقال الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ :
ما شئتَ كان وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن2
" ما شئتَ " : أي أنت يا الله كان ، لا راد له ولا معقب له . " وإن لم أشأ " : أي وإن لم أشأ ذلك الأمر أنا أيها العبد ، " وما شئتُ " أي أنا العبد إن لم تشأ لم يكن .
وهذا هو معنى قوله تبارك وتعالى : {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}3. فمشيئته نافذة في كلِّ شيء ، وقدرته سبحانه وتعالى شاملة لكلِّ شيء ، فهو على كلِّ شيء قدير .
-----------ـــ
1 رواه البخاري في خلق أفعال العباد " ص47 " عن ابن عباس معلقاً .
ونقله ابن القيم في شفاء العليل " ص189 " عن البخاري عن ابن عمر موصولاً والله أعلم .
2 تقدم تخريجه .
3 الآيتان 28 ، 29 من سورة التكوير .
ص -152- وحتى ندرك الفرق بين المشيئة النافذة والقدرة الشاملة فعلينا أن نعلم أنهما تجتمعان فيما كان وما سيكون ، وتفترقان فيما لم يكن ولا يكون .
فما كان وما سيكون كلُّه بقدرة الله التي شملت كلَّ شيء ، وأيضاً نفذت مشيئة الله فيما كان فوقع ، وستنفذ مشيئته فيما سيكون فيقع .
وأما الأمور التي ما كانت ولا تكون فهذه تشملها القدرة الشاملة ، فمثلاً : أهل النار عندما يدخلون النار يسألون الله عز وجل أن يعيدهم إلى الحياة الدنيا ليعلموا صالحاً غير الذي عملوا ، فقدرة الله شاملة لذلك ، فهو سبحانه قادر على أن يعيدهم إلى الحياة الدنيا مرة أخرى ، لكن لم يشأ ذلك؛ لأنه لو شاءه لأعادهم . وبهذا يتضح الفرق بين المشيئة النافذة والقدرة الشاملة .
والمشيئة كونية قدرية . ومن الآيات المثبتة للمشيئة : الآية المتقدمة ، وهي قوله تعالى : {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، وقوله : {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى}1 ونظائرها في القرآن كثير .
" والإرادة " : وهي صفة من صفات الله تعالى ، ومن يتتبع أدلة الكتاب والسنة يجد أن النصوص دلت على أن الإرادة نوعان :
1ـ إرادة كونية قدرية ، وهي كما قال أهل العلم مرادفة للمشيئة ، مثل قوله تعالى : {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}2 ، وقوله تعالى : {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا}3 ، فالإرادة هنا كونية قدرية ، وهي ترادف المشيئة .
2ـ وإرادة شرعية دينية ، ومن لوازمها محبته تبارك وتعالى لهذا الشيء الذي أراده ، فهي تتضمن المحبة بخلاف الإرادة الكونية القدرية فقد يريد الله
-----------ـــ
1 الآية 35 من سورة الأنعام .
2 الآية 82 من سورة يس .
3 الآية 16 من سورة الإسراء .
ص -153- عز وجل قدراً وكوناً ما لا يحبه ، مثل كفر الكافر وعصيان العاصي وظلم الظالم ، فهذه كلها أمور تقع بإرادة الله الكونية القدرية .
فكل ما أراده الله شرعاً وديناً فهو يحبه ،:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}1 ، وكل الأوامر التي في الكتاب العزيز والنواهي أرادها الله من عباده شرعاً ، فأراد الله منهم الصلاة والصيام والإيمان وترك المعاصي والفسوق .
يقول العلماء : تجتمع هاتان الإرادتان في إيمان المؤمن ؛ لأنَّ الله عز وجل أراد منه كوناً وقدراً أن يكون مطيعاً ، وأراد منه ذلك شرعاً وديناً ، فاجتمعت في حقه الإرادتان .
وتنفرد الإرادة الكونية القدرية في كفر الكافر ؛ لأنَّ الله عز وجل أراد منه الكفر كوناً وقدراً ، ولم يرده منه شرعاً وديناً ، قال تعالى : {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}2 .
وتنفرد الإرادة الشرعية الدينية في مثل إيمان الكافر الذي قضى الله أن يموت على الكفر ؛ لأنَّ الله عز وجل أراد منه شرعاً وديناً أن يكون مؤمناً ، لكنه لم يرده منه قدراً وكوناً ؛ لأنَّه لو أراده منه قدراً وكوناً لكان .
وترتفع الإرادتان في كفر المؤمن الذي قضى الله أن يبقى على الإيمان ويموت عليه ، فلم يرد الله منه الكفر لا شرعاً وديناً ، ولا كوناً وقدراً .
وفي قول المصنف : " والمشيئة والإرادة " إشارة إلى أنه ثمة فرق بين الأمرين ، فالمشيئة دائماً وأبداً كونية ، والإرادة منقسمة إلى كونية قدرية ، وشرعية دينية .
-----------ـــ
1 الآية 185 من سورة البقرة .
2 الآية 7 من سورة الزمر