"فمن صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه ، ونطق بها كتابه ، وأخبر بها نبيه : أنَّه مستو على عرشه كما أخبر عن نفسه"
بعد أن ذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ تأصيلاً عاماً لمنهج أهل السنة والجماعة ، وبيَّن طريقتهم في الصفات ، وأنهم يثبتون لله تعالى صفات كماله ونعوت جلاله على الوجه الذي يليق به ، بلا تكييف ولا تشبيه ، ولا تعطيل ولا تمثيل ، بدأ يسوق بشيء من التفصيل بعض صفات الله الثابتة في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وبعض أدلتها على سبيل المثال لا الحصر ، شأنه في ذلك شأن أهل العلم في مثل هذه المختصرات .
وهو بما يذكره يرشد إلى ما لم يذكره من صفات الله تبارك وتعالى العظيمة ونعوته الكريمة التي دل عليها كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .
وبدأ ـ رحمه الله ـ بهذه الصفة العظيمة : علو الله تبارك وتعالى على خلقه ، وذلك فيما يظهر لي ـ والله تعالى أعلم ـ لسببين :
الأول : كثرة الأدلة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم الدالة على هذه الصفة . ومن أهل العلم من عد أدلة علو الله في الكتاب والسنة بالآلاف ، كما قال ابن القيم في كافيته الشافية :
يا قومنا والله إنَّ لقولنا ألفاً تدل عليه بل ألفان
فيقسم رحمه الله بالله أنَّ أدلة علو الله تبارك وتعالى ألف أو ألفان . وهي كما بين أهل العلم تدخل تحت أنواع ، عدَّ ابن القيم منها عشرين نوعاً ، سأذكر بعضها ؛ لأنَّ المصنف ـ رحمه الله ـ أشار إلى جملة منها .
فمنها : تصريحه سبحانه باستوائه على العرش .
ص -68- ومنها : إخباره سبحانه بأنَّه في السماء . ومنها : إخباره سبحانه بصعود بعض المخلوقات وعروجها إليه
ومنها : إخباره سبحانه بنزول كلامه منه ، والنزول لا يكون إلا من علو .
ومنها : تصريحه سبحانه بعلوه . ومنها : تصريحه سبحانه بالفوقية : فوقيته على خلقه . وتحت كلِّ نوع من هذه الأنواع عشرات الأدلة .
أما السبب الثاني فهو : أنَّ علو الله عز وجل على كثرة أدلته ووضوح براهينه ودلائله فإنَّ غلط أهل الأهواء والباطل وضلالهم فيه كثير ، وكلامهم في إنكار العلو وعدم إثباته كثير جداً ، فشككوا الناس في عقائدهم وأديانهم وإيمانهم ، وترتب على قولهم الباطل هذا ؛ إنكار العلو : الخلوص إلى أحد مذهبين فاسدين :
الأول : أنَّ الله لا فوق ولا تحت ، ولا عن يمين العالم ولا عن شماله ، ولا داخله ولا خارجه . وهذا وصف لله تبارك وتعالى بالعدم كما قال بعض السلف في وصف هؤلاء المعطلة : " المعطل يعبد عدماً " 1. وقال آخر : " تأملت قول الجهمية ، فوجدت مؤداه أنه ليس فوق العرش إله يُعبد ، ولا رب يُصلى له ويُسجد " 2 ؛ لأنهم إذا قيل لهم : صفوا لنا ربكم الذي تعبدون يقولون : لا فوق ولا تحت ، ولا عن يمين العالم ولا عن شماله ، ولا داخله ولا خارجه ، ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه . وهذا هو العدم ، بل لو طُلِب من أحد أن يصف العدم بصفة بليغة لما وجد أكمل ولا أحسن من هذه
-----------ـــ
1 انظر : الجواب الصحيح لابن تيمية 4/406 ، والصواعق المرسلة 1/148
2 انظر : الصواعق المرسلة 1/235
ص -69- الصفة التي يصف بها الجهمية ربهم 1.
الثاني :"أنَّ الله ـ تعالى عما يقول الظالمون ـ في كلِّ مكان ، لا يخلو منه مكان ، فهو في السماء وفي الأرض وفي الهواء ، وفي كلِّ مكان . وترتب على هذا القول ظهور العقائد التي كثرت في أهل الباطل ، مثل : الاتحاد ، والحلول ، ووحدة الوجود ، وغير ذلك من العقائد المنحرفة الفاسدة .
فليس أمام من ينكر علو الله إلا إحدى هاتين العقيدتين ، وكتب أهل الباطل والأهواء ـ الذين حادوا عن طريقة الكتاب والسنة وكثر كلامهم وضلالهم ـ مليئة بهذا الباطل بنوعيه ، مشحونة بالشبه في تقريره .
فلأجل هذين السببين ـ والله تعالى أعلم ـ بدأ المصنف بذكر صفة العلو .
ولما شرع ـ رحمه الله ـ في بيان هذه الصفة ، سلك مسلك غير واحد من أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين في ذكر أنواع أدلة العلو مكتفياً بذكر أمثلة من أفراد أدلتها ؛ ليرشد بها إلى نوع الدليل ، لأنَّه ـ كما ذكرت ـ ليس الاتجاه في مثل هذه المختصرات إلى الاستقصاء ، وإنما ذكر شيء يدل"على غيره . فبدأ بالاستواء ، واستواء الله سبحانه على عرشه أحد أدلة علوه تبارك وتعالى على خلقه ؛ لأنَّ الاستواء في لغة العرب هو : العلو والارتفاع ، فمعنى :" استوى على العرش"أي ـ بإجماع السلف ـ : علا وارتفع عليه ؛ لأننا خوطبنا بلغة العرب ، ومدلول هذه الكلمة في لغة العرب هو هذا ، ليس لها مدلول إلا العلو والارتفاع .
فالاستواء إذاً علو وارتفاع ، لكن بين صفتي العلو والاستواء بعض
-----------ـــ
1 ولهؤلاء الجهمية ورثة إلى عصرنا هذا ، وأحد المعاصرين كتب كتاباً بعنوان : حسن المحاججة في بيان أن الله لا داخل العالم ولا خارجه قرر فيه هذه العقيدة الباطلة .
ص -70- الفروق ، منها : أنَّ العلو صفة ذاتية لله تعالى . أما الاستواء فهو صفة فعلية اختيارية تتعلق بالمشيئة . ومنها : أنَّ الاستواء صفة خبرية : دل عليها الخبر ، ولولا الخبر والأدلة التي جاءت في الكتاب والسنة لما عرف الناس هذه الصفة . أما العلو فهو صفة دل عليها العقل مع دلالة الخبر ، فالعقل يدل على علو الله ، ومن الأدلة التي ذكرها أهل العلم على علو الله : العقل والفطرة بالإضافة إلى النقل . ولهذا فإنَّ الله خاطب المشركين ـ مخوفاً لهم بهذا الذي يؤمنون به ـ فقال :{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أ}1 أي أأمنتم مَنْ تعلمون أنَّه في السماء .
وكذلك يأتي في أشعار الجاهليين الإقرار بأنَّ الله في السماء ، مما يؤكد استقرار ذلك في فطرهم ، كما قال أحدهم :
يا عبل أين من المنية مهربُ إن كان ربي في السماء قضاها
وعن عمران بن حصين"رضي الله عنه"قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي : "يا حصين ، كم تعبد إلهاً ؟ قال أبي : سبعة ، ستاً في الأرض وواحداً في السماء . قال : فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك ؟ قال : الذي في السماء . قال : يا حصين أما إنك لو أسلمت علمتك كلمتين تنفعانك " 2 فعرف حصين"رضي الله عنه" أنَّ ربه في السماء وهو مشرك .
والاستواء دليل على علو الله تبارك وتعالى على خلقه ، فعرش الرحمن هو سقف المخلوقات وأعلاها ، والله عز وجل مستو على عرشه . قال رسول
-----------ـــ
1 الآية 16 من سورة الملك .
2 أخرجه الترمذي رقم 3483 وقال : هذا حديث غريب ، وأحمد 4/444 ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني رقم 2355 ، والبزار رقم 3580 وإسناده جيد .
ص -71- الله صلى الله عليه وسلم : " فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى ، فإنَّه أوسط الجنة وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجر أنهار الجنة " 1 . ومعنى العرش في لغة العرب : سرير الملك ، قال الأزهري : " العرش في كلام العرب : سرير الملك ، يدلك على ذلك سرير ملكة سبأ ، سماه الله عز وجل عرشاً فقال : {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ2 " 3 .
وقد ورد للعرش في الكتاب والسنة صفات عديدة .
ـ منها : أنَّه سقف المخلوقات وأعلاها وأكبرها وأوسعها ، قال رسول الله" صلى الله عليه وسلم : " ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة " 4 .
فإذا كان الكرسي بالنسبة للعرش كحلقة ألقيت في صحراء ، فماذا تساوي السماوات والأرض بالنسبة للعرش ؟! أو ماذا تساوي الأرض التي نحن عليها بالنسبة للعرش ؟!
ـ ومن أوصافه الواردة في السنة : أن له قوائم ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " لا تخيروا بين الأنبياء ، فإنَّ الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من تنشق عنه الأرض ، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش " 5.
-----------ـــ
1 أخرجه البخاري رقم 2790
2 الآية 23 من سورة النمل .
3 تهذيب اللغة 1/413
4 أخرجه ابن أبي شيبة في العرش رقم 58 ، وأبو نعيم في الحلية 1/166 ، وأبو الشيخ في العظمة 2/648 ـ 649 ، والبيهقي في الأسماء والصفات رقم 861 وللحديث طرق أخرى ذكرها الألباني في الصحيحة رقم 109 وقال : " وجملة القول أن الحديث بهذه الطرق صحيح " .
5 أخرجه البخاري في صحيحه رقم 2412 ، ومسلم رقم 6103
ص -72- ـ ومنها : أنَّه أثقل المخلوقات وزناً ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " سبحان الله وبحمده ، عدد خلقه ، ورضا نفسه ، وزنة عرشه ، ومداد كلماته " 1 . قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : " فهذا يبين أنَّ زنة العرش أثقل الأوزان " 2 .
ـ ومنها : أنَّه مجيد ، كما قال تعالى : {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ}3. قال ابن كثير : " المجيد فيه قراءتان : الرفع على أنَّه صفة للرب عز وجل ، والجر على أنَّه صفة للعرش . وكلاهما معنى صحيح " 4.
والمجد في لغة العرب يعطي معنى السعة ، تقول العرب : أمجد الناقة علفاً أي أوسع لها وأكثر لها العلف . ويقولون : استمجد المرخ والعفار ـ وهما نوعان من الشجر ـ أي كثر وجودهما بشكل واسع وكبير .فهذا الوصف : المجيد يدل على السعة ، وهو في حق الله تعالى دال على سعة صفاته وعظمتها وكمالها وجلالها .
وقد نبه ابن القيم ـ رحمه الله ـ على قاعدة مفيدة فيما يتعلق بأسماء الله ، وهي أنَّ منها ما يدل على صفة واحدة ، مثل السميع فهو دال على صفة السمع . والبصير دال على صفة البصر . والرحيم دال على صفة الرحمة . ومنها ما يدل على أكثر من صفة ، مثل السيد والعظيم والمجيد ، فالمجيد هذا يدل على صفات كثيرة 5.
-----------ـــ
1 أخرجه مسلم رقم 6851
2 الرسالة العرشية ص 8
3 الآية 15 من سورة البروج .
4 التفسير 4/497
5 انظر : بدائع الفوائد 1/168
ص -73- ومنها : أنَّ له حملةً من الملائكة ، قال تبارك وتعالى : {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}1 .
ـ ومنها : الكرم والعظمة ، قال تعالى : {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}2 ، وقال : {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} وهذه الصفات كلُّها تدل على أنَّه مخلوق عظيم موجود ، والله تبارك وتعالى مستو عليه استواءً يليق بجلاله وكماله وعظمته سبحانه ، لا يشبه استواء المخلوقين .
فالمؤلف بدأ بهذا الدليل ، وهو ذكر الآيات الدالة على استواء الله تبارك وتعالى على عرشه ، وذكر ـ رحمه الله ـ أنَّ الله سبحانه صرح باستوائه على عرشه في سبعة مواضع من كتابه الكريم ، ثم ساقها فقال
: فقال عز من قائل في سورة الأعراف : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}وقال في سورة يونس عليه السلام {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}، وقال في سورة الرعد : {الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}، وقال في سورة طه : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، وقال في سورة الفرقان : {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ}، وقال في سورة السجدة : {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}، وقال في سورة الحديد : {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فهذه سبعة مواضع أخبر الله فيها سبحانه أنه على العرش"
-----------ـــ
1 الآية 17 من سورة الحاقة .
2 الآية 116 من سورة المؤمنون .
3 الآية 129 من سورة التوبة .
ص -74- فهذه سبعة مواضع في القرآن ورد فيها التصريح بالاستواء ، ولم يرد في أيِّ موطن من القرآن بلفظ آخر كـ"استولى على العرش"، وكأن المصنف ـ رحمه الله ـ يشير بتنصيصه على هذه المواضع السبعة إلى إبطال تأويل من تأول الاستواء على غير معناه ، إذ لو كان المراد الاستيلاء عليه لجاء ولو في موضع من هذه المواضع السبعة"ثم استولى على العرش"حتى يمكن القول بحمل هذا على هذا ، أمَا وقد اتفق اللفظ في هذه المواضع السبعة فلا يمكن ذلك .
وقد نبَّه أهل العلم على فائدة مهمة فيها رد على أهل الأهواء الذين يتأولون الاستواء ، ألا وهي أنَّ السياق في جميع هذه المواضع السبعة في بيان عظمة الله وجلاله وكماله بذكر صفاته ونعوته سبحانه وتعالى ، فهو سبحانه يثني على نفسه ويمجدها ويعظمها بذكر صفاته ، ومن بين هذه الصفات التي أثنى بها على نفسه : استواؤه على العرش : {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}. ومع ذلك يأتي المبتدعة إلى هذه الآيات فيقولون : الاستواء على العرش لا يليق به سبحانه ، ونحن ننزهه عن ذلك ، فينزهون الله عما مدح به نفسه ، وأثنى عليها به . {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ}1 كما أنَّ الاستواء على العرش جاء في أكثر هذه المواضع معطوفاً بالحرف" ثم"ـ الذي يفيد الترتيب والمهلة ـ بعد ذكره خلق السماوات والأرض : {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}
وهذا ـ أيضاً ـ فيه إبطال لمن يتأول الاستواء بغير معناه ، كمن يقول : الاستواء على العرش هو الاستيلاء عليه ، يعني مُلْكَه للعرش وغلبته
-----------ـــ
1 الآية 140 من سورة البقرة .
وللشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في كتابه دراسات في منهج أهل السنة في الأسماء والصفات ص 15 ـ 17 كلام جميل حول هذه الآيات السبع ، وبيان أنها سيقت في سياق بيان عظمة الله تبارك وتعالى بذكر عظمة صفاته .
ص -75- عليه ، إذ لو كان استواء الله على عرشه ـ الذي هو المُلك كما يزعمون ـ للزم منه أنه لم يحصل ملك الله للعرش إلا بعد خلق السماوات والأرض !!
فحاول هؤلاء المعطلة التخلص من هذا اللازم فقالوا :"ثم"ليست على بابها ، فهي في هذه المواضع لا تفيد الترتيب والمهلة .
إذاً فـ"ثم"محمولة عندهم على غير بابها ، و استوى محمولة على غير بابها ، و العرش"محمول على غير بابه ؛ لأنه ـ بزعمهم ـ كناية عن العظمة ، و الرحمن"أيضاً محمول على غير بابه ؛ لأنه كناية عن إرادة الإنعام . إذاً فليس في الآية شيء على بابه !! فركبوا مجازات بعضها فوق بعض وتحريفات بعضها فوق بعض ، وكلُّ ذلك إمعان منهم في إنكار استواء الله تبارك وتعالى على عرشه .
ثم إنَّ استواءه تبارك وتعالى على عرشه ليس عن حاجة ، بل عن غنى تام ، فهو تبارك وتعالى الممسك للعرش والسماوات والأرض بقدرته ، وهو الغني عن العرش وما دونه ، والعرش وما دونه فقراء محتاجون إلى الله ، قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ}1 ، وقال تبارك وتعالى : {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}2 فهو الممسك للسماوات والأرض والعرش وكل المخلوقات بقدرته تبارك وتعالى .
أما المخلوق فإذا استوى على شيء ، فإنما يستوي عليه عن حاجة ، كما في قوله تعالى : {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ}3 أي الفلك والأنعام . فاستواء المخلوق على الفلك والأنعام هو عن حاجة منه إليها ، بحيث لو غرقت الفلك لغرق ، ولو سقطت الدابة لسقط .
-----------ـــ
1 الآية 41 من سورة فاطر .
2 الآية 2 من سورة الرعد .
3 الآية 13 من سورة الزخرف .
ص -76- وهنا قاعدة يقررها أهل العلم في هذا الباب مهمة للغاية ، وهي أنَّ لازم الصفة عند إضافتها إلى الله تبارك وتعالى لا يكون لازماً للصفة عند إضافتها إلى المخلوق ، وكذلك العكس .
فمثلاً : من لوازم إضافة الاستواء إلى المخلوق : احتياجه لما هو مستو عليه ، وهذا اللازم خاص بمن أضيف إليه وهو المخلوق . فإذا أضيف الاستواء إلى الله تبارك وتعالى لا يصح بأيِّ وجه من الوجوه أن نضيف إليه لازم الصفة حال إضافتها إلى المخلوق .
وبهذا يُعلم فساد أقوى شبهة عند هؤلاء لإنكار الاستواء ، وهي قولهم : لو أثبتنا أن الله تبارك وتعالى مستو على عرشه حقيقة للزم من ذلك أن الله محتاج إلى العرش .
وقد جاءتهم هذه الشبهة من جعلهم لازم الصفة حال إضافتها للمخلوق لازماً للصفة حال إضافتها للخالق ، وهذا سبب الفساد وأساسه في هذه الصفة ، بل وفي كلِّ صفة خاض فيها هؤلاء بالباطل .
وأهل العلم يقولون : الصفة لها ثلاثة اعتبارات 1 :
الاعتبار الأول : من حيث الإطلاق ، أي بدون أن تضاف لا إلى خالق ولا إلى مخلوق . فعندما نقول الاستواء ، ولا نضيفه لا إلى الله ، ولا إلى الخلق . فهو في هذه الحال أمر في الذهن ، لا حقيقة له في الخارج .
الاعتبار الثاني : اعتبار الصفة من حيث إضافتها إلى الله سبحانه وتعالى ، مثل استواء الله على العرش : {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فهنا الصفة مضافة إلى الله ، والإضافة تقتضي التخصيص ، فالصفة المضافة إلى الله تخصه سبحانه وتعالى وتليق بجلاله وكماله ، ولازمها : الكمال اللائق
-----------ـــ
1 انظر : بدائع الفوائد 1/165
ص -77- بجلاله وعظمته . وهذا اللازم لا يجوز أن يجعل لازماً للصفة عندما تضاف للمخلوق .
الاعتبار الثالث : اعتبار الصفة من حيث إضافتها إلى المخلوق ، ولازم الصفة في هذه الحال : النقص والضعف ، وهي تليق بالمخلوق وبضعفه ونقصه وكونه مخلوقاً . وهذا اللازم الذي يلزم الصفة باعتبار إضافتها إلى المخلوق ليس لازماً للصفة باعتبار إضافتها إلى الخالق .
فإذا جعل لازم الصفة باعتبار إضافتها إلى المخلوق لازماً لها باعتبار إضافتها إلى الخالق يكون بذلك تشبيه للخالق بالمخلوق ، وإذا جعل لازم الصفة باعتبار إضافتها للخالق لازماً للصفة باعتبار إضافتها للمخلوق يكون بذلك تشبيه للمخلوق بالخالق ، والله عز وجل لا يشبه أحداً من خلقه ، ولا يشبهه أحد من خلقه ، فكلا التشبيهين باطل : تشبيه الخالق بالمخلوق ، وتشبيه المخلوق بالخالق .
يقول الإمام أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ :" لا يشبه شيئاً من الأشياء من خلقه ، ولا يشبهه شيء من خلقه " 1 .
والوجوه التي ذكرها أهل العلم في إبطال هذا التحريف لعلو الله واستوائه على عرشه كثيرة جداً ، وهي مبسوطة في الصواعق المرسلة لابن القيم رحمه الله 2.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله عز وجل كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق : إنَّ رحمتي سبقت غضبي . فهو عنده فوق العرش "
-----------ـــ
1 الفقه الأكبر ص14 ، وانظر : شرح الطحاوية ص117
2 مختصر الصواعق 2/126 ـ 158
ص -78- بعد أن فرغ المصنف ـ رحمه الله ـ من ذكر النوع الأول من الأدلة على علو الله ، وهو : التصريح بالاستواء على العرش شرع بذكر النوع الثاني : وهو التصريح بالفوقية .
وقد جاء هذا النوع من الأدلة في القرآن والسنة ، كما قال الله تبارك وتعالى :{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}1 ، وقال سبحانه : {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}2.
وحديث أبي هريرة الذي أورده المصنف فيه التصريح بفوقية الله تبارك وتعالى على عرشه ، والشاهد فيه قوله : وهو" عنده فوق العرش "عنده أي عند الله فوق العرش .
والحديث مشتمل ـ إضافة إلى دلالته على فوقية الله تبارك وتعالى على خلقه ـ على ذكر صفتين ، وهما الرحمة والغضب ، في قوله :"إن رحمتي سبقت ـ وفي رواية غلبت ـ غضبي".
كما أنه أحد الأدلة التي استدل بها أهل العلم على التفاضل بين صفات الله تبارك وتعالى ، فقد بيَّن سبحانه أنَّ رحمته سبقت غضبه وغلبته ، وهو دليل على أن الرحمة أفضل .
ومن الأدلة ـ أيضاً ـ على التفاضل : قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه في سجوده : " اللهم أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك ، لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك " 3 والمستعاذ به أفضل من المستعاذ منه ، والكلُّ صفة لله تبارك وتعالى 4 .
وروى العباس بن عبد المطلب "رضي الله عنه" أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذكر
-----------ـــ
1 الآية 50 من سورة النحل .
2 الآية 18 من سورة الأنعام .
3 أخرجه مسلم رقم 1090
4 لأخينا الشيخ محمد بن عبد الرحمن أبو سيف حفظه الله رسالة قيمة جداً بعنوان : مباحث المفاضلة في العقيدة تناول فيها هذا الموضوع وبسط الكلام فيه .
ص -79- سبع سماوات وما بينها ، ثم قال : " وفوق ذلك بحر : بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء ، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال ، ما بين أظلافهن وركبهن ما بين سماء إلى سماء ، ثم فوق ظهورهن العرش ، ما بين أعلاه وأسفله ما بين سماء إلى سماء ، والله تعالى فوق ذلك " رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه القزويني"
هذا الحديث مشهور عند أهل العلم بحديث الأوعال ، وهو دال على ما دل عليه الحديث السابق من فوقية الله تبارك وتعالى على خلقه .
و الشاهد منه قول النبي صلى الله عليه وسلم في آخره :"والله فوق ذلك"، والمؤلف ـ رحمه الله ـ ساق الحديث لهذا الشاهد ، وقد عرفنا أن فوقية الله دلت عليها نصوص كثيرة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .
لكن هذا الحديث الذي ساقه المصنف ـ رحمه الله ـ ضعيف الإسناد ، قال الذهبي : " تفرد به سماك عن عبد الله ، وعبد الله فيه جهالة " 1 ، وقال الألباني : " إسناده ضعيف " 2 .
فالحديث فيه كلام ، ولا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن عدم ثبوته لا يضر هنا ، لأنَّ الصفة التي ساق المصنف لأجلها هذا الحديث ثابتة في الحديث الذي قبله ، وفي القرآن الكريم ، فلعله ذكره هنا استئناساً لا اعتماداً ـ إن كان غير ثابت عنده 3 ـ فإنَّ من أهل العلم من حسَّن هذا الحديث 4 ، وهذا ربما للشواهد