6- المبدأ السادس:
ولا يفوتن الداعي أن يلاحظ أن لا يتسبب في ملل المخاطب وسآمته ، من أجل التكرار المسرف أو الإطالة التي لا حاجة إليها، أو الأسلوب الكلامي الواحد الذي لا يتنوع ولا يتجدد، ويجري في نسق واحد جاف، وفعلا فقد كان رسول الله صحابته يراعون ذلك ويلاحظونه ملاحظة وثيقة.
عن شقيق قال: كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يذكر الناس في كل خميس ، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن لوددت لو أنك ذكرتنا في كل يوم ، قال: أما أنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم ، وإني أتخولكم بالموعظة ، كما كان رسول الله يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا " متفق عليه.
7- المبدأ السابع:
وعلى العامل في حقل الدعوة ، أن يكون على أهبة تامة لبذر الدعوة ، كلما واتته فرصته ، وأن يكون ذو ملاحظة بحث لا تفوقه فرصة، ولا تضيع عليه مناسبة، وخير مثال لذلك، ما صنعه نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام وقد حكاه القرآن مفصلا:
{وَدَخَلَ مَعَهُ السّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنّيَ أَرَانِيَ أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الاَخَرُ إِنّي أَرَانِيَ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطّيْرُ مِنْهُ نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاّ نَبّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمّا عَلّمَنِي رَبّيَ إِنّي تَرَكْتُ مِلّةَ قَوْمٍ لاّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُمْ بِالاَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتّبَعْتُ مِلّةَ آبَآئِـيَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النّاسِ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ * يَصَاحِبَيِ السّجْنِ أَأَرْبَابٌ مّتّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاّ أَسْمَآءً سَمّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مّآ أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ للّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ إِيّاهُ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَصَاحِبَيِ السّجْنِ أَمّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبّهُ خَمْراً وَأَمّا الاَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطّيْرُ مِن رّأْسِهِ قُضِيَ الأمْرُ الّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} .
فهذا الموقف بكل تفاصيله: هنالك رجلان يدخلان السجن ويريان في المنام رؤيا عجيبة ، فيتوقان إلى الاطلاع على الحقيقة التي تنطوي عليها هذه الرؤيا، فيريان يوسف عليه السلام من بين هؤلاء السجناء ، الرجل الوحيد الذي يمكن أن يسعفهم بالحاجة، فيعرضان عليه ، وهما يكنان له كل الإجلال والإكبار، والتقدير والإعجاب، ولكن يوسف عليه السلام لا يسرع في الإجابة، ولا يكتفي بإرضاء الحاجة ، ولا يستغل هذه الفرصة في تضخيم
شخصيته أمام أعينهما، أو في كسب إعجابهما، أو في نيل المصالح الذاتية ، بل يقدر هذه اللفتة الكريمة الثمينة من الرجلين، فيستخدمها في نشر الدعوة.
وينفذ إلى الغرض من خلال الأسلوب الذي ينم عن أن الكلام الدعوي تفرع من صميم الحديث الذي بدأ فيه من أجل تأويل الرؤيا، مما يدل على أمرين مهمين:
أ- أنه ينبغي للداعي أن يترقب الفرصة لنشر الدعوة ، ترقب الفلاحين لنزول المطر واعتدال الجو، ومواتاة الطقوس.
ب- أنه إذا أتاح الله له فرصة ما تلائم عرض الدعوة، فلا يجوز له أن يدعها تضيع هدراً ، بل يبادر في أن يستعملها في أكبر غاية وأعظم هدف.
8- المبدأ الثامن:
إذا أحس الداعي من المخاطب اللجاجة والتمادي فعليه أن يتفادى بكل حيلة ممكنة ما يزيده إلحاحاً على الغي وزهداً في الحق ، ويسعى جهده أن يعرض عليه الحق بأسلوب لبق، يسد عليه منافذ التمادي ويفتح عليه آفاقا من الخير والرشد، ويجعله مبهوتا لا يجد حيلة للتخلي عن الموقف، ولا يجد جواباً إذا كان قد جبل على البلاغة ، ولا يملك أهلية التمييز بين الخير والشر أصلا. وقد سجل القرآن الكريم حوارا جرى بين إبراهيم عليه السلام وبين ملك معاصر له، وهو خير مثال لما نحن بصدد إبانته:
قال تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَآجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّيَ الّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِالشّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ} ، إن الدليل الذي قدمه نبي الله إبراهيم عليه السلام ، لم يتزعزع من ثرثرة الملك ، وكان لإبراهيم عليه السلام أن يعرضه عليه مرة ثانية ويتبعه ويرغمه على الإجابة الصحيحة المقنعة ، لكنه لم يصنع كل ذلك ، لأنه كان يتعارض مع الطريقة الحكيمة التي أمر القرآن الحكيم بالالتزام بها : {ادْعُ إِلِىَ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، ولا سيما بعد ما عرف نفسية المخاطب - الملك- وما طبع عليه من اللجاجة في الباطل، والإصرار الأكيد على الشر .