--------------
{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} هذا هو العمل، وقد استدل بعض السلف بهذه الآية على فضل العلم، فقد ذكر أبو نعيم رحمه الله في "الحلية" عن سفيان بن عيينة رحمه الله أنه سئل عن فضل العلم فقال: ألم تسمع قوله تعالى حين بدأ به فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}، ثم أمره بالعمل بعد ذلك فقال: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}1.
ووجه الاستدلال على فضل العلم أن الله تعالى بدأ به فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالعلم قبل أن يأمره بالعمل، وهذا يدلنا على أمرين:
أولاً: على فضل العلم.
ثانياً: على أن العلم مقدم على العمل.
ثم ذكر المصنف مسائل أخرى مفرعة على ما تقدم فقال: "اعلم رحمك الله"، وهذا دعاء من المصنف رحمه الله يدل على حرصه ونفعه لأخيه المسلم كما تقدم.
قوله: "أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلم هذه المسائل الثلاث2 والعمل بهن"، هذه المسائل الثلاث مجملها: الأولى في توحيد الربوبية، والثانية في توحيد الألوهية، والثالثة في الولاء والبراء.
--------------ـــــــــــ
1 "حلية الأولياء": "7/305".
2 في نسخة الأصول بحاشية ابن القاسم: "ثلاث هذه المسائل"، وفي "المجموع" المطبوع بدار المعارف في مصر: "تعلم هذه الثلاث مسائل"، ولعل المثبت في الأصل أوضح.
ص -28-
الأولى: أن الله خلقنا ورزقنا ولم يتركنا هملاً،
--------------
وهذه المسائل الثلاث مسائل عظيمة لابد من تعلمها والعمل بها؛ لأنها قاعدة الدين وأساس العقيدة، فـ "الأولى" التي هي توحيد الربوبية "أن الله خلقنا وورزقنا ولم يتركنا هملاً"، هذه ثلاثة أمور:
الأولى: أن الله تعالى خلقنا، والدليل على أن الله خلقنا هو السمع والعقل، أما السمع فآياته كثيرة كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}1، وقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}2، أما العقل فقد دل عليه قول الله تعالى في سورة الطور: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}3، ففي هذه الآية دليل عقلي على أنه لابد من خالق، وأنه لم يوجد هذا الكون صدفة؛ لأن القسمة العقلية تقتضي ثلاثة أمور لا رابع لها: إما أننا خلقنا بدون خالق، وهذا لا يمكن؛ لأن الخلق لابد أن يتعلق بخالق كالتحريك يتعلق بمحرك، فلا يمكن للشيء أن يتحرك من مكانه إلا بوجود محرك له، وهذا أمر ضروري يعرفه العقلاء، فكوننا خلقنا بدون خالق هذا لا يمكن، والناس بمقتضى عقولهم –حتى المعاندون منهم- يعرفون هذا، فلو قيل لشخص: إن هناك قصراً من القصور الذي جهز بكل ما تشتهيه الأنفس وتتمناه، ولكن هذا القصر وجد صدفة بدون بناء ولا إعداد لبادر الناس إلى التكذيب، وقالوا: هذا لا يمكن؛ لأن القصر يحتاج إلى بناء، وما فيه يحتاج إلى إعداد، فلابد من عمال وصُناع.
--------------ـــــــــــ
1 سورة الذاريات، الآية: 56.
2 سورة الزمر، الآية: 62.
3 سورة الطور، الآية: 35.
ص -29-
--------------
--------------
الأمر الثاني: أننا خلقنا أنفسنا، وهذا أشد فساداً مما قبله؛ لأننا معدومون، والمعدوم لا يمكن أن يكون قادراً على إيجاد نفسه؛ لأن العدم نقص، والخلق كمال، فكيف يكون الناقص كاملاً، هذا لا يمكن، فيتعين الأمر الثالث وهو أنه لابد لنا من خالق وهو رب القادر، ولهذا قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} يعني: هل هم خلقوا هكذا دون خالق؟ هذا الأمر الأول، أم هم الخالقون؟ يعني لأنفسهم هذا الأمر الثاني، والأمر الثالث لم تذكره الآية؛ لأنه إذا امتنع الأمر الأول والثاني يتعين الأمر الثالث.
وقد ورد في الحديث أن رجلاً مشركاً سمع هذا الآية فدخل الإيمان في قلبه وهو جبير بن مطعم رضي الله عنه كما في "صحيح البخاري"1 أنه جاء في موضوع أسارى بدر والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب بسورة الطور فمرت الآية وجبير يسمع فيقول معبراً عن نفسه: "كاد قلبي أن يطير، ومنذ ذلك الوقت وقر الإيمان في قلبي"؛ لأنه من أهل اللسن والفصاحة والبلاغة، فعرف الآية ومعناها وما تدل عليه فوقر الإيمان في قلبه2.
قوله: "ورزقنا"، هذا الأمر الثاني مما يتعلق بتوحيد الربوبية، والدليل على أن الله تعالى رزقنا آيات كثيرة من القرآن الكريم، كقول الله تعالى:
--------------ـــــــــــ
1 "2/ 247 – الفتح" في الصلاة، و"6/168" في الجهاد، و"7/323" في المغازي، "8/603" في التفسير.
2 انظر: "الأسماء والصفات" للبيهقي: "ص390".
ص -30-
--------------
--------------
{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}1، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}2، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}3 إلى غير ذلك من الآيات.
والرزق: اسم لما يسوقه الله إلى الحيوان فيأكله. قال في "القاموس": الرزق –بالكسر-: ما ينتفع به كل مرتزق. والرزق نوعان:
1- خاص: وهو الرزق الحلال للمؤمنين. وهذا هو الرزق النافع الذي لا تبعة فيه إذا كان عوناً على طاعة الله تعالى، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}4.
2- عام: وهو ما به قوام سواء كان حلالاً أو حراماً، وسواء كان المرزوق مسلماً أو كافراً، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}5.
وقوله: "ولم يتركنا هملاً" هذا الأمر الثالث، والهمل بالتحريك: هو السدى المتروك ليلاً ونهاراً، ولم يرد اللفظ هذا في القرآن الكريم، إنما الذي ورد في القرآن الكريم: {أَيَحْسَبُ الْإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً}6 وورد في
--------------ـــــــــــ
1 سورة الذاريات، الآية: 22.
2 سورة الذاريات، الآية: 58
3 سورة آل عمران، الآية: 37.
4 سورة الأعراف، الآية: 32.
5 انظر: "لوامع الأنوار البهية": "1/343"، والآية من سور هود، رقم: 6.
6 سورة القيامة، الآية:36
ص -31-
بل أرسل إلينا رسولاً، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار.
--------------
القرآن الكريم: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}1، فالهمل والسدى والعبث بمعنى واحد، وهو المتروك الذي لا يؤمر ولا ينهى، والدليل من السمع على أن الله تعالى لم يتركنا سدى هو ما تقدم.
أما الدليل من العقل فإن الله جل وعلا حكيم، فقد خلقنا ورزقنا، وأرسل إلينا الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وأوجب علينا طاعتهم، وأمرنا بقتال المعاندين، فلو لم يكن هناك حساب ولا عقاب ولا ثواب ولا جزاء؛ لكان هذا من العبث الذي ينزه الله تعالى عنه. فالله تعالى شرع هذه الأمور لمعاد يحاسب عليه الإنسان المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، فهذا الدليل العقلي يدل على أن الله تعالى لم يتركنا هملاً، وأن الجزاء الأخروي تعقبه الحياة الأبدية، وهي الحياة الحقيقية كما في قوله تعالى: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}2 سماها حياة مع أن الدنيا حياة لكنها حياة إلى زوال وانقضاء، وأما حياة البقاء والخلود فهي الحياة في الدار الآخرة، إما في عذاب سرمدي، وإما في نعيم دائم، -نسأل الله الكريم من فضله-.
قوله: "بل أرسل إلينا رسولاً، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار". هذا دليل على أن الله تعالى لم يتركنا هملاً، والمراد بالرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم، والمراد بقول المصنف "أرسل إلينا"، أي: معشر الأمة، وقد جاء في القرآن الكريم آية عظيمة تبين الغاية من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال
--------------ـــــــــــ
1 سورة المؤمنون، الآية: 115.
2 سورة الفجر، الآية: 24.
ص -32-
--------------
--------------
تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}1 فالغاية من إرسال الرسل: طاعتهم واتباعهم فيما جاءوا به عن الله تعالى، وأما الحكمة من إرسال الرسل فهي هداية البشرية إلى الصراط المستقيم، وبيان عبادة الله تعالى على الوجه المرضي؛ لأن العقل البشري لا يستقل بمعرفة ذلك. والتلقي لا يمكن عن الله تعالى إلا بواسطة الرسل، فالرسل واسطة بين الله تعالى وبين الخلق، والرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يشرع للأمة بعد تشريع الله تعالى {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}2.
ثم بين المصنف رحمه الله مآل الطائعين والعصاة بقوله: "فمن أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار"، وهذا دل عليه القرآن الكريم في آيات كثيرة، قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}3، وفي الجانب الآخر: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا}4.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى"5.
--------------ـــــــــــ
1 سورة النساء، الآية: 64.
2 سورة يوسف، الآية: 40.
3 سورة النساء، الآية: 13.
4 سورة النساء، الآية: 14.
5 أخرجه البخاري: "13/249 فتح".
ص -33-
والدليل قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً}.
--------------
قوله: "والدليل قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً}1". هذا دليل على المسألة الأخيرة وهي قوله: "بل أرسل إلينا رسولا"، والخطاب في قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ}، يعني: شاهداً على أعمالكم كما في قوله تعالى: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}، وقوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً}، هو موسى عليه الصلاة والسلام وعدم تعيينه؛ لعدم دخوله في التشبيه أو لأنه معلوم غني عن البيان2.
والمقصود من هذه الآية –والله أعليم- تذكير هذه الأمة بهذه النعمة العظيمة، وهي إرسال هذا النبي الكريم وتحذيرها أن تفعل مثل ما فعل قوم فرعون فيصيبهم ما أصابهم. والمعنى: أن الله جل وعلا أرسل إليكم رسولاً كما أرسل إلى فرعون رسولاً فانظروا ماذا كان موفق فرعون وقومه من الرسول؛ لأن سنة الله واحدة لا تتغير ولا تتبدل قال تعالى: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً}، وأصل الوبيل في اللغة بمعنى: الثقيل الشديد، كما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما3 "تقول
--------------ـــــــــــ
1 سورة المزمل، الآيتان: 15، 16.
2 "روح المعاني": "29/108".
3 أخرجه البخاري: "8/657 الفتح" معلقاً، ووصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
ص -34-
الثانية: أن الله لا يرضى أن يشرك معه أحد في عبادته لا ملك مقرب ولا نبي مرسل
--------------
العرب: كلأ وبيل وطعام وبيل، أي: ثقيل رديء العقبى، والطعام الذي يستمرأ تهضمه المعدة براحة وفي وقت قصير، أما إذا كان الطعام لا يستمرأ فإن المعدة لا تهضمه بسهولة وتحتاج إلى وقت أطول، وقد يكون له عواقب وخيمة، وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "الحق ثقيل مري والباطل خفيف وبي"1، يعني: عاقبته وخيمة أما الحق فإنه وإن كان الإنسان يحسب أنه ثقيل عليه فهو مري خفيف، عاقبته حميدة، فالله تعالى أخذ فرعون أخذا شديداً مهلكاً؛ وذلك بإغراقه وجنوده في البحر فلم يفلت منهم أحد، ثم بعد ذلك في عذاب البرزخ إلى يوم القيامة ثم عذاب النار، قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}2.
قوله المصنف رحمه الله: "الثانية: أن الله لا يرضى أن يشرك معه أحد في عبادته لا ملك مقرب ولا نبي مرسل" هذه المسألة الثانية هو في توحيد الألوهية، والمعنى: أن الله جل وعلا يوجب على المكلفين إفراده بالعبادة؛ لأنه هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له؛ لأنه سبحانه وتعالى هو الخالق الرازق له الملك والأمر، فلا يرضى سبحانه وتعالى أن يشرك معه أحد مهما بلغ هذا الشخص من الطهارة والعلو والرفعة، لا ملك مقرب
--------------ـــــــــــ
1 "حلية الأولياء": 1/134"، وانظر: لسان العرب "1/190".
2 سورة غافر، الآية: 46.
ص -35-
والدليل قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً}.
--------------
ولا نبي مرسل، وإذا كان الله تعالى لا يرضى أن يشرك معه لا ملك مقرب وهو المقربون إلى الله تعالى ولا نبي مرسل وقد اصطفاهم الله سبحانه وتعالى فإن غيرهم من الخليقة من باب أولى؛ لأن العبادة لا تصلح إلا لله تعالى، وصرفها لغير الله ظلم، قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}1، والله جل وعلا لا يرضى لعباده الكفر، وإنما يرضى لهم الإسلام، كما قال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}2، وقال تعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ}3.
قوله: "والدليل قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً}4" المساجد جمع مسجد، وهو كل موضع بني للصلاة والعبادة وذكر الله تعالى، والدليل على هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد: "إن هذا المسجد لا يصلح لشيء من ذلك إنما بني لذكر الله تعالى وللصلاة"5، وهذه وظيفة المساجد، وهذه الإضافة في الآية إضافة تشريف وتخصيص، ويكون المعنى على التخصيص: أنكم إذا دخلتم المساجد للعبادة فلا تدعوا فيها مع الله أحداً لأنها بيوت الله فكيف تدخل بيته وتدعو معه غيره؟ وقوله تعالى: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً}، {أَحَداً} نكرة، والنكرة في سياق النهي تفيد العموم، أي: فلا تدعوا مع الله أحداً كائناً من كان، لا ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً، وما دون ذلك من باب أولى كما تقدم.
--------------ـــــــــــ
1 سورة لقمان، الآية: 13.
2 سورة المائدة، الآية: 3.
3 سورة الزمر، الآية: 7.
4 سورة الجن، الآية: 18.
5 أخرجه البخاري: "رقم221"، ومسلم: "رقم285".
ص -36-
الثالثة: أن من أطاع الرسول ووحد الله لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله.
--------------
قول المصنف رحمه الله: "الثالثة: أن من أطاع الرسول ووحد الله لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله".
هذه المسألة الثالثة وموضوعها الولاء والبراء، والمعنى: أن من أطاع الرسول فيما أمر، واجتنب ما عنه نهى وزجر، ووحد الله سبحانه، فهذه هي العقيدة الإسلامية، ومن أصول هذه العقيدة: أن يوالي أهلها، ويبغض أهل الشرك ويعاديهم، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}1، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوثق على الإيمان: الحب في الله والبغض في الله"2.
فالحب في الله، والموالاة في الله والمعاداة في الله: من مقتضيات ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ومن لوازم دين محمد صلى الله عليه وسلم، والدليل على هذا –أي: على الثاني- قول الله تعالى كما ذكر المصنف رحمه الله: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...}3 الآية.
--------------ـــــــــــ
1 سورة الممتحنة، الآية: 4.
2 أخرجه الطبراني في "الكبير": "رقم 10357،10531"، والحديث حسنه الألباني في تعليقه على كتاب "الإيمان" لابن أبي شيبة: "ص45".
3 سورة المجادلة، الآية:22.
ص -37-
ولو كان أقرب قريب. والدليل قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً
--------------
ومعنى قول المؤلف رحمه الله: "ولا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله" أي: عادى الله ورسوله هذا معنى المحادة. وأصل المحادة في اللغة: أن تكون في جانب، والشخص الذي تعاديه في جانب آخر، ولا ريب أن من لم يطع الله ورسوله فإنه يصدق عليه أنه محاد لله ورسوله، كأنه بتصرفه هذا في جانب، والله –سبحانه- ورسوله صلى الله عليه وسلم في جانب آخر.
والموالاة معناها: المصادقة والموادة و المحبة، وهي تشعر بالقرب والدنو من الشيء.
وقوله: "ولو كان أقرب قريب"، أي: الولد والوالد؛ لأنهما أقرب قريب للإنسان، إما الأصل وإما الفرع، ثم يأتي بعد هذا الإخوان-وهم الأعوان- ثم بعد هذا تأتي بقية القرابة. لكن في باب الموالاة، وفي باب المعاداة لا قيمة للنسب، فأخوك في العقيدة هو أخوك الحقيقي، وعدوك الحقيقي هو عدوك في العقيدة، فأخوك الحق هو أخوك في العقيدة ولو كان في أقصى الدنيا، وعدوك الحق هو عدوك في العقيدة ولو كان أقرب قريب؛ إذ ليس هناك اعتبار للأنساب في ميزان الإسلام إنما الاعتبار بهذه العقيدة ولهذا أكد الله تعالى هذا المعنى وضرب الأمثلة ببعض القرابة.
فقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً}، والفعل "لا تجد" بضم الدال، وإذا كانت مضمومة فهذا نفي، ويقول علماء البلاغة: إن النفي أبلغ من النهي؛ لأن النهي متعلق بالمستقبل، والنفي متعلق بالماضي والمستقبل، فيكون المعنى: لا تجد في أي وقت من الأوقات قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله.
ص -38-
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ
--------------
ومعنى {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}، أي: يؤمنون الإيمان الصحيح الذي يتوافق فيه الظاهر مع الباطن، وهذا يفيد أن المعيار الصحيح لمعاداة الكفار هو الإيمان بالله واليوم الآخر، وهذا يوجب على الإنسان أن يتفقد إيمانه، فإن حصل عنده ميل أو ركن لمن يحاد الله ورسوله؛ فعليه أن يراجع نفسه ويتأمل في إيمانه؛ لأن موالاتهم قد تكون دليلاً عل فقد الإيمان بالكلية أو على ضعفه على حسب ما يقوم بالقلب، وعلى أي حال فموالاتهم أمرها حطير؛ لأن الله جل وعلا نفى اجتماع الإيمان مع موادتهم فقال سبحانه {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فأخبر أنك لا تجد مؤمناً يواد المحادين لله ورسوله، فإن نفس الإيمان ينافي موادته، كما ينفي أحد الضدين الآخر، فإذا وجد الإيمان انتفى ضده وهو موالاة أعداء الله، فإذا كان الرجل يوالي أعداء الله بقلبه كان ذلك دليلاً على أن قلبه ليس فيه الإيمان الواجب"1.
وقوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} أي: لا يوادون من حاد الله ولو كانوا الأقربين، وقوله: {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}، قال الراغب: "العشيرة: اسم لكل جماعة من
--------------ـــــــــــ
1 "الإيمان": "ص13".
ص -39-
أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ
--------------
أقارب الرجل الذين يتكثر بهم"1ا.هـ. وقال الألوسي: "وليس المراد بمن ذكر خصوصهم، وإنما المراد الأقارب مطلقاً، وقدم الآباء لأنه يجب على أبناء طاعتهم ومصاحبتهم في الدنيا بالمعروف، وثنى بالأبناء؛ لأنهم أعلق بهم لكونهم أكبادهم، وثلث بالإخوان؛ لأنهم الناصرون لهم.. وختم بالعشيرة؛ لأن الاعتماد عليهم والتناصر بهم بعد الإخوان غالباً"2.
ثم ذكر سبحانه أنه جازاهم بخمسة أشياء، وبدأ تعالى بألطافه الدنيوية فقال جل وعلا: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ}، أي: جمعه في قلوبهم وثبته وأرساه، فهي قلوب مؤمنة مخلصة لا تؤثر فيها الشبه ولا الشكوك {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ}، أي: قواهم {بِرُوحٍ مِنْهُ}، أي بنور وهدى ومدد إلهي، وإحسان رباني، وسماه الله روحاً؛ لأنه للحياة الطيبة. ثم ذكر آثار رحمته الأخروية فقال سبحانه: {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} وهي دار كرامته فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} هذا استئناف جرى مجرى التعليل، والمعنى: أن الله يحل عليهم رضوانه بطاعتهم إياه في الدنيا {وَرَضُوا عَنْهُ} في الآخرة
--------------ـــــــــــ
1 "المفردات في غريب القرآن" للراغب الأصفهاني: "ص335"
2 "روح المعاني": "28/36".
ص -40-
أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
--------------
بإدخالهم الجنة وما فيها من الكرامات، وهذا أعلى مراتب النعيم. قال ابن كثير رحمه الله: "وفيه سر بديع وهو أنهم لما أسخطوا الأقارب والعشائر في الله عوضهم الله بالرضا عنهم، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم والفوز والفضل العميم"1.
وقوله تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ} إضافة تشريف ببيان اختصاصهم به تعالى {أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفلاح هو الفوز والظفر بسعادة الدنيا ونعيم الآخرة. وذكرت كلمة {حِزْبَ اللَّهِ} في الأول لبيان اختصاصهم به تعالى كما مر، والثانية لبيان اختصاصهم بسعادة الدارين.
وموالاة الكفار لها مظاهر متعددة يكثر ظهورها من زمن إلى زمن آخر ولنذكر أهم هذه المظاهر فمتى تلبس بها أو بشيء منها إنسان مسلم فعليه أن يعلم أنه قدر والاهم بقدر ما قام به من هذه المظاهر.
فال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}2، فمن هذه المظاهر:
أولاً: الرضا بكفر الكافرين وعدم تكفيرهم، أو الشك في كفرهم، أو تصحيح أي مذهب من مذاهبهم الكافرة.
ثانياً: التشبه بعاداتهم وأخلاقهم وتقاليدهم؛ لأنه ما تشبه بهم إلا لأنه معجب والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من تشبه بقوم فهو منهم"3.
--------------ـــــــــــ
1 "تفسير ابن كثير": 8/280".
2 سورة المائدة، الآية: 51.
3 أخرجه أبو داود: "رقم 4031"، وأحمد: "9/123" وغيرهما والحديث له طرق، وشواهد، يتقوى بها.
ص -41-
اعلم أرشدك الله لطاعته أن الحنيفية ملة إبراهيم أن تعبد الله وحده مخلصاً له الدين.
--------------
ثالثاً: الاستعانة بهم، والثقة بهم، واتخاذهم أعواناً وأنصاراً.
رابعاً: معاونتهم ومناصرتهم.
خامساً: مشاركتهم في أعيادهم بإعانتهم إما بالحضور أو بالتهنئة.
سادساً: التسمي بأسمائهم.
سابعاً: السفر إلى بلادهم لغير ضرورة بل للنزهة ومتعة النفس.
ثامناً: الاستغفار لهم والترحم عليهم إذا مات منهم ميت.
تاسعاً: مجاملتهم ومداهنتهم في الدين.
عاشراً: استعارة قوانينهم ومناهجهم في حكم الأمة وتربية أبنائها.
فهذه بعض مظاهر موالاة الكفار، والمسألة تحتاج إلى بيان أكثر وفيما ذكرنا كفاية إن شاء الله1.
قول المصنف رحمه الله: "اعلم أرشدك الله لطاعته أن الحنيفية ملة إبراهيم أن تعبد الله وحده مخلصاً له الدين" هذا الكلام من المؤلف رحمه الله في موضوع تقرير توحيد الألوهية، وقد بدأ هذا التقرير بالدعاء لك أيها القارئ أو السامع، فقال: "اعلم أرشدك الله لطاعته"، ومعنى أرشدك، أي: دلك وهداك إلى الرشد، والرشد: هو الاستقامة على طريق الحق وهو ضد الغي؛ لأن الغي هو الضلال الذي يفضي بصاحبه –والعياذ بالله- إلى الخسران.
والطاعة: هي موافقة أمر الشرع بفعل المأمور واجتناب المحظور.
--------------ـــــــــــ
1 راجع كتاب "الولاء والبراء" تأليف محمد بن سعيد القحطاني.
ص -42-
--------------
--------------
والحنيفية: هي ملة إبراهيم، وملة إبراهيم هي الحنيفية، ولهذا جمع المصنف رحمه الله بينهما وأصل الحنيفية مأخوذ من الحنف، والحنف معناه: الميل، فالحنيف: هو المائل عن الشرك قصداً وإخلاصاً إلى التوحيد، والحنيف هو المقبل على الله سبحانه وتعالى المعرض عن كل ما سواه، قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً}1، والقانت: هو الخاشع المطيع2.
أما الملة: فهي بمعنى الدين، وهي اسم لكل ما شرعه الله سبحانه وتعالى لعباده على ألسنة أنبيائه.
قوله: "أن تعبد الله مخلصاً له الدين" هذا بيان لحقيقة ملة إبراهيم فهو خبر "أن" في قوله: "أن الحنفية ملة إبراهيم"، فـ"أن" وما دخلت عليه في تأويل مصدر خبر "أن"، والتقدير: اعلم أن الحنيفية ملة إبراهيم عبادة الله تعالى وحده بإخلاص.
وأصل العبادة: التذلل والخضوع، تقول العرب: طريق معبد، أي: مذلل، مهيأ لسلوك الناس. قال العلماء: وسميت الوظائف التي طلبها الله تعالى من المكلفين عبادات؛ لأنهم يلتزمونها ويفعلونها متذللين خاضعين لله سبحانه وتعالى.
وأما معناها الذي يبين متعلقاتها، فهو كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية
--------------ـــــــــــ
1 سورة النحل، الآية:120.
2 انظر: "تفسير ابن كثير": "4/530".
ص -43-
--------------
--------------
رحمه الله في كتابه القيم "العبودية": "العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة"1 من الصلاة والزكاة والصيام والحج والمحبة والخوف والرجاء والتوكل والاستعانة والاستغاثة ونحو ذلك مما سيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
وقوله: "أن تعبد الله مخلصاً له الدين". الإخلاص: هو أن يقصد العبد بعمله رضا ربه وثوابه، لا غرضاً آخر من رئاسة أو جاه أو شيء من حطام الدنيا. فإذا قام العبد بالعبادة مريداً ببذلك: رضا الله سبحانه وتعالى، الذي هو المستحق للعبادة، وقصد بذلك الحصول على الثواب تحقق الإخلاص، وقصد ثواب الله تعالى ونيل رضوانه وجنته لا يخل بالإخلاص، بل يذم من يعبد الله تعالى وهو لا يريد الثواب، وهي طريقة من طرق الصوفية، وهي مخالفة لما دلت عليه النصوص الشرعية من أن الإنسان يقصد بعبادته وجه الله تعالى والوصول إلى رضوانه وطلب ثوابه وجنته.
وللإخلاص ثمرات عظيمة:
1- أنه بتحقيق الإنسان لتوحيد ربه وإخلاصه العبودية له تكمل له الطاعة ويخرج من قلبه تأله ما يهواه.
2- من أخلص في عبادة ربه صرفت عنه المعاصي والذنوب كما قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}2،
--------------ـــــــــــ
1 "العبودية": "ص38".
2 سورة يوسف، الآية: 24.
ص -44-
وبذلك أمر الله جميع الناس وخلقهم لها، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}
--------------
فعلل صرف السوء والفحشاء عنه بأنه من عبادة المخلصين له في عبادتهم، الذين أخلصهم الله، واختارهم، واختصهم لنفسه.
1- من أخلص في عبادة ربه في حرز من الشيطان. قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}1، وقال الشيطان: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}2.
2- ثبت في حديث عتبان أنه قال: "إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله"3.
قوله: "بذلك" اسم إشارة يعود إلى العبادة الخالصة، أي: بإخلاص العبادة "أمر الله جميع الناس" بدليل قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}4.
قوله: "وخلقهم لها، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}5"، أي: خلقهم لعبادته، وهذه الآية العظيمة بينت الحكمة من خلق الجن والإنس، وهي العبادة، فإن الله جل وعلا ما خلق إلا
--------------ـــــــــــ
1 سورة الحجر، الآية: 42، والإسراء، الآية: 65.
2 سورة ص، الآيتان: 82، 83.
3 انظر: "مجموع الفتاوى: "10/260-261"، والحديث أخرجه البخاري "رقم 42"، ومسلم "رقم 33".
4 سورة الأنبياء، الآية: 25.
5 سورة الذاريات، الآية: 56.
ص -45-
ومعنى يعبدون يوحدوني........................................
--------------
لأجل أن يأمرهم بالعبادة، فمنهم من أطاع وأذعن فعبد الله، ومنهم من عصى وعاند فأشرك مع الله غيره.
والجن: عالم غيبي قائم بذاته، يختلف عن الإنس؛ لأنه مخلوق من نار والإنس مخلوق من طين، قال تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}1 سموا جناً لاجتنانهم، أي: استتارهم عن العيون، واجتماع الجيم مع حرف النون في لغة العرب يدل على الستر، قال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ}2.
والإنس: البشر، الواحد "إنسي" سموا بذلك لأن بعضهم يأنس ببعض، والإنس الطمأنينة3.
قوله: "ومعنى يعبدون يوحدوني" هذا تفسير لمعنى العبادة في الآية الكريمة، فمعنى "يعبدون، أي: يفردونني بالعبادة، والإفراد بالعبادة معناه: التوحيد. وقد ورد في الحديث القدسي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل: يا ابن آدم، تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك"4، فهذا حديث يدل على أن الوظيفة التي أنيطت بهذا المكلف:
--------------ـــــــــــ
1 سورة الرحمن، الآيتان: 14،15.
2 راجع كتاب "عالم الجن والشياطين" للدكتور عمر الأشقر، والآية من سورة الأعراف رقم27.
3 "لسان العرب": "6/10".
4 أخرجه أحمد: "16/8681"، والترمذي: "4/2466". وصححه أحمد شاكر.
وصححه الألباني في "صحيح الترمذي": "2/300"، وقد وقع عند الترمذي: "ملأت يديك شغلاً"، وفي معناه حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، أخرجه الحاكم: "4/326"، والطبراني: 20/500".
ص -46-
وأعظم ما أمر الله به التوحيد، وهو إفراد الله بالعبادة.
--------------
هي عبادة الله والتفرغ لما خلق لأجله.
قوله: "وأعظم ما أمر الله به التوحيد، وهو إفراد الله بالعبادة" التوحيد معناه في اللغة: من وحد يوحد توحيداً، أي: جعله واحداً لا ثاني له، والمصنف رحمه الله عرف التوحيد بأنه: إفراد الله بالعبادة، وهو يريد بهذا التوحيد الذي بعثت الرسل لتحقيقه وإلا فهو بالمعنى العام: إفراد الله بالربوبية والألوهية والأسماء والصفات، وهذه أقسام التوحيد الثلاثة، فيكون تعريف المصنف هنا للتوحيد بأنه إفراد الله بالعبادة إنما هو لبيان التوحيد الذي حصل به النزاع والجدال، والذي بعثت لأجله الرسل وأنزلت له الكتب وشرع من اجله الجهاد، وهو توحيد الألوهية. ومعنى "إفراد الله بالعبادة"، أي: قولاً وقصداً وفعلاً، فيفرد الله بالأقوال والأفعال والمقاصد، والمراد بالعبادة هنا في كلام المصنف: العبادة الشرعية، وهي الخضوع لأمر الله الشرعي، وأمر الله الشرعي هو القيام بالتكاليف.
أما العبادة الكونية فهي الخضوع لأمر الكوني، والعبادة الكونية عامة لكل مخلوق فالذي ينقاد لأقدار الله تعالى داخل في المعنى الثاني للعبادة، وهي العبادة الكونية. والفرق بين أمر الله الكوني وأمر الله الشرعي، أن أمر الله الشرعي: ما شرعه الله لعباده من التكاليف. وأمر الله الكوني: ما يقضيه الله سبحانه وتعالى ويقدره على عباده مؤمنهم
ص -47-
وأعظم ما نهى عنه الشرك،
--------------
وكافرهم، برهم وفاجرهم، من مرض أو فقر أو فقد محبوب ونحو ذلك، والدليل على أن العبادة تكون كونية قول الله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً}1، فهذه هي العبودية المقصودة في هذا الباب -التي هي معنى التوحيد-: هي العبادة الشرعية التي لا ينقاد لها إلا المؤمن البر.
قوله: "وأعظم ما نهى عنه الشرك" الشرك في الأصل بمعنى: النصيب، فإذا أشرك مع الله غيره، أي: جعل لغيره نصيباً. وإنما كان الشرك أعظم ما نهى الله عنه؛ لأن أعظم الحقوق حق الله تعالى، وحق الله تعالى إفراده بالعبادة، فإذا أشرك مع الله غيره ضيع أعظم الحقوق. وقد ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "سألت –أو سئل- رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب عند الله أعظم؟ -وفي لفظ: أكبر- قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك..."2. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: "أتدري ما حق الله على عباده؟" قال: الله ورسوله أعلم، قال صلى الله عليه وسلم: "حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً..."3، فدل هذا على أن الله سبحانه وتعالى له حق العباد، فمن ضيع هذا الحق فقد وقع في تضييع أظم الحقوق.
--------------ــــــــ
1 سورة مريم، الآية: 93.
2 أخرجه البخاري: "8/492-فتح"، ومسلم: "رقم86".
3 أخرجه البخاري: "رقم5986"، ومسلم: "رقم48/30".
ص -48-
وهو دعوة غيره معه.
--------------
وقوله: "وهو دعوة غيره معه" هذا تعريف الشرك، وهو أن يجعل مع الله إلها آخر ملكاً أو رسولاً أو ولياً أو حجراً أو بشراً يعبده كما يعبد الله، وذلك بدعائه والاستعانة به والذبح له والنذر له وغير ذلك من أنواع العبادة. وهذا هو الشرك الأكبر. وهو أربعة أنواع:
1- شرك الدعاء: وهو أن يضرع إلى غير الله تعالى من نبي أو ملك أو ولي بقربة من القرب –صلاة أو استغاثة أو استعانة- أو يدعو ميتاً أو غائباً أو نحو ذلك مما هو من اختصاص الله تعالى. والدليل قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}1.
2- شرك النية والإرادة والقصد: بأن يأتي بأصل العبادة رياء أو لأجل الدنيا وتحصيل أغراضها. والدليل قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}2.
قال ابن القيم رحمه الله: "أما الشرك في الإرادات والنيات فذلك البحر الذي لا ساحل له، وقل من ينجو منه، فمن أراد بعمله غير وجه الله، ونوى شيئاً غير التقرب إليه، وطلب الجزاء منه فقد أشرك في نيته وإرادته..."3.
--------------ــــــــ
1 سورة العنكبوت، الآية: 65.
2 سورة هود، الآيتان: 15، 16.
3 "الجواب الكافي": "ص115".
ص -49-
--------------
--------------
واعتبار شرك النية والقصد من الشرك الأكبر محمول على ما ذكرنا، وهو أن يأتي بأصل العمل رياء أو لأجل الدنيا، ولم يكن مريداً وجه الله تعالى والدار والآخرة. وهذا العمل على هذا الوصف لا يصدر من مؤمن. فإن المؤمن وإن كان ضعيف الإيمان لابد أن يريد الله والدار والآخرة. لكن إن تساوى القصدان أو تقاربا فهذا نقص في الإيمان والتوحيد. وعمله ناقص لفقده كمال الإخلاص. وإن عمل لله وحده وأخلص في عمله إخلاصاً تاماً وأخذ عليه جعلاً معلوماً يستعين به على العمل والدين فهذا لا يضر؛ لأن الله تعالى جعل في الأموال الشرعية كالزكوات وأموال الفيء وغيرها جزءاً كبيراً يصرف في مصالح المسلمين1.
3- شرك الطاعة: وهو أن يتخذ له مشرعاً سوى الله تعالى، أو يتخذ شريكاً لله تعالى في التشريع، فيرضى بحكمه، ويدين به في التحليل والتحريم عبادة وتقرباً وقضاءً وفصلاً في الخصومات. والدليل قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}2، ولما سمع عدي بن حاتم رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية قال: "إنا لسنا
--------------ــــــــ
1 "القول السديد": "ص128".
2 سورة التوبة، الآية: 31.
ص -50-
--------------
--------------
نعبدهم، قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: بلى: فتلك عبادتهم"1.
4- شرك المحبة: وهو اتخاذ الأنداد من الخلق يحبهم كحب الله تعالى؛ فيقدم طاعتهم على طاعته ويلهج بذكرهم ودعائهم. والدليل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}2.
قال ابن قيم رحمه الله: "وهاهنا أربعة أنواع من المحبة يجب التفريق بينها، وإنما ضل من ضل بعدم التمييز بينها:
أحدها: محبة الله. ولا تكفي وحدها في النجاة من عذاب الله والفوز بثوابه، فإن المشركين وعباد الصليب واليهود وغيرهم يحبون الله.
الثاني: محبة ما يحبه الله. وهذه هي التي تدخله في الإسلام وتخرجه من الكفر, وأحب الناس إلى الله أقومهم بهذه المحبة وأشدهم فيها.
الثالث: الحب لله وفيه, وهي من لوازم محبة ما يحبه الله. ولا يستقيم محبة ما يحبه الله إلا بالحب فيه وله.
--------------ــــــــ
1 أخرجه الترمذي: "8/492-تحفة"، وابن جرير: "14/209"، تحقيق محمود شاكر، و"البيهقي": "10/116"، وغيرهم. وقد حسنه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "الإيمان": "ص64"، والألباني في "غاية المرام": "رقم6"، وفي "صحيح الترمذي": "3/56"، وفي سنده غطيف بن أعين. ذكره الدار قطني في "الضعفاء" وذكره ابن حبان في "الثقات".
2 انظر: "مجموعة التوحيد" "الرسالة الثالثة": "ص346". والآية من سورة البقرة: 165.
ص -51-
والدليل قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}.
--------------
الرابع: المحبة مع الله. وهي المحبة الشركية، وكل من أحب شيئاً مع الله، لا لله ولا من أجله، ولا فيه، فقد اتخذه نداً من دون الله، وهذه محبة المشركين"1.
وأما محبة الشرك الأصغر فهو كل ما نهى عنه الشرع مما هو ذريعة إلى الشرك الأكبر ووسيلة للوقوع فيه، وجاء في النصوص تسميته شركاً: كالحلف بغير الله تعالى والرياء اليسير في أفعال العبادات وأقوالها وبعض العبارات مثل: "ما شاء الله وشئت"، ونحوها مما فيه تشريك بين الله وخلقه مثل: "لولا الله وفلان"، و"ما لي إلا الله وأنت"، "وأنا متوكل على الله وعليك"، "ولولاك أنت لم يكن كذا".. وقد يكون شركاً أكبر بحسب قائله ومقصده.
قوله: "والدليل قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}2" هذه الآية جمعت بين أمرين: الأمر بالعبادة والنهي عن الشرك، مما يدل على أن العبادة لا تتم إلا باجتناب الشرك قليله وكثيره؛ لأن "شيئاً" نكرة في سياق النهي فتفيد العموم، أي، لا شركاً أصغر ولا أكبر لا ملكاً ولا نبياً ولا ولياً ولا غيرهم من المخلوقين. كما أنه تعالى لم يخص نوعاً من أنواع العبادة لا دعاء ولا صلاة ولا توكلاً ولا غيرها ليعم جميع أنواع العبادة.
--------------ــــــــ
1 "الجواب الكافي": "ص164".
2 سورة النساء، الآية: 36.