ص -42- باب الخوف من الشرك
وقول الله –عز وجل-: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 48و116] وقال الخليل –عليه السلام-: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ} [إبراهيم: 35]. وفي الحديث: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" فسئل عنه، فقال: "الرياء".(1) وعن ابن مسعود –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "من مات، وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار".(2) رواه البخاري. ولمسلم عن جابر –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار".(3)
فيه مسائل:
الأولى: الخوف من الشرك.
الثانية: أن الرياء من الشرك.
الثالثة: أنه من الشرك الأصغر.
الرابعة: أنه أخوفُ ما يخُاف منه على الصالحين.
----------------ـ
(1) أخرجه أحمد 5/428و429، والطبراني في "الكبير" (4301) وحسنه الحافظ في "بلوغ المرام" (302).
(2) أخرجه البخاري (4497) و(6683).
(3) أخرجه مسلم (93).
ص -43- الخامسة: قُرب الجنة والنار.
السادسة: الجمع بين قربهما في حديث واحد.
السابعة: أنه مَنْ لقيه لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار، ولو كان من أعبد الناس.
الثامنة: المسألة العظيمة: سؤال الخليل ولبنيه وقايةَ عبادة الأصنام.
التاسعة: اعتباره بحال الأكثر لقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ}.
العاشرة: فيه تفسير "لا إله إلا الله" كما ذكره البخاري.
الحادية عشرة: فضيلة من سَلِمَ من الشرك.
الشرح:
كل من حقق التوحيد فلا بد أن يخاف من الشرك؛ ولهذا كان سيد المحققين للتوحيد محمد –عليه الصلاة والسلام- يُكثر من الدعاء بأن يبعدَ عنه الشرك، وكذلك كان إبراهيم –عليه السلام- يكثر من الدعاء؛ لئلا يدركه الشرك، أو عبادة الأصنام.
فمناسبة هذا الباب لما قبله ظاهرة، وهي أن تحقيق التوحيد عند أهله لا بُدَّ أن يقترن معه الخوف من الشرك، وقّلَّ من يكون مخاطراَ بتوحيده أو غير خائف من الشرك، ويكون مع هذا على مراتب الكمال، بل لا يوجد, فكل محقق للتوحيد، وكل راغب فيه حريص عليه يخاف من الشرك، وإذا خاف من الشرك، فإن الخوف الذي هو فزع القلب وهلعه، يجعل العبد حريصاً كل الحرص على البعد عن الشرك والهروب منه. والخوف من الشرك يثمر ثمرات منها:
ص -44- - أن يكون متعلماً للشرك بأنواعه، حتى لا يقع فيه.
- ومنها أن يكون متعلماً للتوحيد بأنواعه، حتى يقوم في قلبه الخوف من الشرك، ويعظُم، ويستمر على ذلك.
- ومنها أن الخائف من الشرك يكون قلبه دائم الاستقامة على طاعة الله مبتغياً مرضاة الله، فإن عصى، أو غفل كان استغفارُه استغفار من يعلم عظم شأن الاستغفار، وعظم حاجته للاستغفار؛ لأن الناس في الاستغفار أنواع، لكن من علم منهم حق الله –جل وعلا- وسعى في تحقيق التوحيد وتعلم ذلك، وسعى في الهروب من الشرك؛ فإنه إذا غفل وجد أنه أشد ما يكون حاجة إلى الاستغفار، ولأجل صلاح هذا بوب الشيخ –رحمه الله- هذا الباب الذي عنوانه: (باب الخوف من الشرك)، فكأنه يقول لك: إذا كنت تخاف الشرك كما خاف منه إبراهيم –عليه السلام- وعرفت ما توعد الله به أهل الشرك من أنه لا يغفر لهم شركهم، فينبغي لك أن تعلم وأن تتعلَّم ما سيأتي في هذا الكتاب؛ فإن هذا الكتاب موضوع لتحقيق التوحيد، وللخوف من الشرك، والبعد عنه، فما بعد هذين البابين: (باب من حقق التوحيد) و(باب الخوف من الشرك) تفصيل لهاتين المسألتين العظيمتين اللتيْن هما: تحقيق التوحيد، والخوف من الشرك، ببيان معناه، وبيان أنواعه.
وقد ذكرنا فيما سبق أن الشرك هو إشراك غير الله معه في أيِّ نوع من أنواع العبادة، وقد يكون أكبر، وقد يكون اصغر، وقد يكون خفياً.
قال الشيخ –رحمه الله-: (وقول الله –عز وجل-: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 48و116]).
ص -45- والمغفرة هي: الستر لما يُخاف وقوع أثره، ويقال في اللغة: غفر: إذا ستر، ومنه سُمِّي ما يوضع على الرأس مغفراً؛ لأنه يستر الرأس، ويقيه الأثر المكروه من وقع السيف ونحوه، فمادة (المغفرة) راجعة إلى ستر الأثر الذي يُخاف منه، والشرك والمعصية لهما أثرهما إما في الدنيا، وإما في الآخرة، أو فيهما جميعا. وأعظم ما يُمَنُّ به على العبد أن يغفر ذنبه، وذلك بأن يستر عليه ويُمحى عنه أثره، فلا يؤاخذ به في الدنيا، ولا يعاقب عليه في الآخرة، فلولا المغفرة لهلك الناس.
ومعنى قوله –جل وعلا- في هذه الآية: {لا يَغْفِرُ} أي أبداً، فقوله: {لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} هذا وعيد بأنه -تعالى- لم يجعل مغفرته لمن أشرك به. وقد قال العلماء في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} إن في هذه الآية دليلاً على أن المغفرة لا تكون لمن أشرك شركاً أكبر، أو أشرك شركاً أصغر، فإن الشرك لا يدخل تحت المغفرة، بل يكون بالموازنة، فهو لا يغفر إلا بالتوبة، فمن مات على ذلك غير تائب فهو غير مغفور له ما فعله من الشرك، وقد يغفر الله –تعالى- غير الشرك كما قال: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} فجعلوا الآية دليلاً على أن الشرك الأكبر والأصغر لا يدخل تحت المشيئة.
وجه الاستدلال من الآية: أن (أن) في قوله –تعالى- {لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} موصول حرفي، فتؤول مع الفعل الذي بعدها –وهو"يشرك" بمصدر
ص -46- كما هو معلوم- والمصدر نكرة وقع في سياق النفي، وإذا وقعت النكرة في سياق النفي عمت، قالوا: فهذا يدل على أن الشرك الذي نفي هنا يعم الأكبر، والأصغر، والخفي، فكل أنواع الشرك لا يغفرها الله –جل وعلا- وذلك لعظم خطيئة الشرك؛ لأن الله –جل وعلا- هو الذي خلق، ورزق، وأعطى، وهو الذي تفضل، فكيف يتوجه القلب عنه إلى غيره؟ لا شك أن هذا ظلم في حق الله –جل وعلا- ولذلك لم يغفر. وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وأكثر علماء الدعوة.
وقال آخرون من أهل العلم: إن قوله هنا: {لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} دال على العموم، لكنه عموم مراد به خصوص الشرك الأكبر، فالمقصود بالشرك في قوله: {لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} هو الشرك الأكبر فقط دون غيره، وأما ما دون الشرك الأكبر فإنه يكون داخلا تحت المشيئة، فيكون العموم في الآية مراداً به الخصوص؛ لأنه غالباً ما يرد في القرآن هذا اللفظ: {أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} ونحو ذلك، ويراد به الشرك الأكبر دون الشرك الأصغر، وهذا في الغالب –كما سبق- فالشرك غالباً ما يطلق في القرآن على الأكبر دون الأصغر، ومن شواهد ذلك قوله –جل وعلا-: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] فقوله في الآية: {يُشْرَكَ} هو –أيضاً-: فعل داخل في سياق الشرط؛ فيكون عاما، لكن
ص -47- هل يدخل فيه الشرك الأصغر والخفي؟
الجواب: أنه لا يدخل بالإجماع؛ لأن تحريم الجنة، وإدخال النار، والتخليد فيها، إنما هو لأهل الموت على الشرك الأكبر، فدلنا ذلك على أن المراد بقوله: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] أهل الإشراك بالله الشرك الأكبر، ولم يدخل ما دونه من أنواع الأصغر.
فيكون المفهوم _إذاً- من آيتي سورة النساء كالمفهوم من آية سورة المائدة، ونحوها، وهذا كقوله في سورة الحج: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] فهذا ونحوه وارد في الشرك الأكبر.
فيكون –على هذا القول- المراد بما نُفي هنا في قوله: {لا يَغْفِرُ أَنْ} الشرك الأكبر. ولما كان اختيار إمام الدعوة، كما هو اختيار عدد من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم وغيرهما أن العموم شامل لأنواع الشرك: الأكبر، والأصغر، والخفي، كان الاستدلال بهذه الآية صحيحاً؛ لأن الشرك أنواع، وإذا كان الشرك بأنواعه لا يُغفر، فهذا يوجب الخوف منه أعظم الخوف، فإذا كان الشرك الأصغر كالحلف بغير الله، وتعليق التميمة، والحلقة، والخيط، ونحو ذلك من أنواع الشرك الأصغر، كقولك: ما شاء وشئت، ونسبة النعم إلى غير الله، إذا كان ذلك لا يُغفر فإنه يوجب أعظم الخوف كالشرك الأكبر.
ص -48- وإذا كان كذلك، فيقع الخوف من الشرك مَنْ هم على غير التوحيد، كمَنْ يعبدون غير الله، ويستغيثون بغير الله، ويتوجهون إلى غيره، ويذبحون وينذرون لغيره، ويحبون غير الله محبة العبادة، ويرجون غير الله رجاء العبادة، ويخافون خوف السر من غير الله، إلى غير ذلك من ألوان الشرك، فيكون هؤلاء أولى بالخوف من الشرك؛ لأنهم وقعوا فيما اتُفِقَ عليه أنه لا يغفر. كما يقع في الخوف من الشرك أهل الإسلام الذين قد يقعون في بعض أنواع الشرك الخفي، أو الشرك الأصغر بأنواعه، وهم لا يشعرون، أو وهم لا يحذرون.
فإذا علم العبد المسلم أن الشرك بأنواعه لا يغفر، وأنه مؤاخذ به، وأن الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان لا تكفر ذنب الوقوع في الشرك الأصغر، فيجب أن يعظم في قلبه الخوف منه. فإن قيل: فبماذا يُغفر إذاً؟
فالجواب: أنه لا يغفر إلا بالتوبة فقط، فإن لم يتب فثمَّة الموازنة بين الحسنات والسيئات، ولكن ما ظنكم بسيئة فيها التشريك بالله مع حسناتٍ؟ فمن ينجو من ذلك؟ لا ريب أنه لا ينجو إلا من عظمت حسناته، فزادت على سيئة ما وقع فيه من أنواع الشرك. ولا شك أن هذا يوجب الخوف الشديد من الشرك بعامة؛ لأن المرء يكون على خطر عظيم إذا وُزنت حسناته وسيئاته، ثم كان في سيئاته نوع من أنواع الشرك؛ لأن من المعلوم أن الشرك بأنواعه من حيث الجنس أعظم من كبائر الأعمال المعروفة.
فوجه الاستدلال من آية النساء وهي قوله –جل وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} أن فيها عموما يشمل أنواع الشرك جميعاً، وأنها كلها لا تغفر، فيكون ذلك موجبا للخوف من الشرك، وإذ وقع أو حصل الخوف
ص -49- والوجل من الشرك في القلب، فإن العبد سيحرص على معرفة أنواعه حتى لا يقع فيه، ويطلب معرفة أصنافه وأفراده، حتى لا يقع فيها، وحتى يحُذِّر أحبابه ومن حوله منها؛ لذلك كان أحب الخلق، أو أحب الناس، وخير الناس للناس من يحذرهم من هذا الأمر، ولو لم يشعروا به، ولو لم يعقلوه، قال جل وعلا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس} [آل عمران: 110] لأنهم يدلون الخلق على ما ينجيهم، فالذي يحب للخلق النجاة هو الذي يحذِّرهم من الشرك بأنواعه، ويدعوهم إلى التوحيد بأنواعه؛ لأن هذا أعظم ما يدعى إليه، ولهذا لما حصل من بعض القرى في زمن إمام الدعوة تردد وشك ورجوع عن مناصرة الدعوة، وفهمِ ما جاء به الشيخ –رحمه الله- وكتبوا للشيخ وغلّظوا له القول، وقالوا: إن ما جئت به ليس بصحيح، وإنك تريد كذا وكذا –لما حصل منهم ذلك، أجابهم بكتاب قال في آخره- بعد أن شرح التوحيد وضدّه، ورغَّب، ورهَّب-: "ولو كنتم تعقلون حقيقة ما دعوتكم إليه لكنت أغلى عندكم من آبائكم وأمهاتكم وأبنائكم، ولكنكم قوم لا تعقلون". انتهى كلامه رحمه الله. وهو كلام صحيح، ولكن لا يعقله إلا من عرف حق الله –جل وعلا- فرحمة الله على هذا الإمام، وأجزل له المثوبة، وجزاه عنا وعن المسلمين خير الجزاء، ورفع درجته في المهديين، والنبيين، والصالحين.
ثم ساق الشيخ –رحمه الله- بعد هذه الآية قول الله –جل وعلا-:
{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]، وصاحب هذه الدعوة هو إبراهيم –عليه السلام- ومرَّ في الباب قبله أن إبراهيم قد
ص -50- حقق التوحيد، وقد وصفه الله بأنه كان أمة قانتا لله حنيفا، وبأنه لم يك من المشركين، فهل يطمئن من كان على هذه الحال إلى أنه لن يعبد غير الله، ولن يعبد الأصنام، أو يظل مقيماً على خوفه؟ وهل حال الكمَّل الذين حققوا التوحيد أنهم يطمئنون أم يخافون؟ هذا إبراهيم –عليه السلام- كما في هذه الآية خاف الشرك، وخاف عبدة الأصنام، فدعا الله بقوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 35-36]، فكيف بمن دون إبراهيم ممن ليس من السبعين ألفاً، وهم عامّة هذه الأمة؟ والواقع أن عامة الأمة لا يخافون من الشرك، فمن الذي يخافه –إذاً؟ الذي يخافه هو الذي يسعى في تحقيق التوحيد.
قال إبراهيم التيمي –رحمه الله- وهو من سادات التابعين لما تلا هذه الآية، قال: "ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟"(1) إذا كان إبراهيم –عليه السلام- وهو الذي حقق التوحيد، وهو الذي وُصِفَ بما وُصِفَ به، وهو الذي كسَّر الأصنام بيده يخاف من الفتنة بها فمن يأمن البلاء بعده؟.
إذا فما ثم إلا غرور أهل الغرور، والمقصود: أن هذا يوجب الخوف الشديد من الشرك؛ لأن إبراهيم –عليه السلام- مع كونه سيد المحققين للتوحيد في زمانه، بل وبعد زمانه إلى نبينا –صلى الله عليه وسلم- ما أعطي الضمان والأمان من الوقوع في الشرك، وألا يزيغ قلبه، وكذلك الحال مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
----------------ـ
(1) أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم كما في الدرر المنثور (5/46).
ص -51- قوله هنا: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} الأصنام: جمع صنم، والصنم هو: ما جُعِل على صورة مما يُعبد من دون الله، كشكل وجه رجل، أو شكل جسم حيوان، أو رأس حيوان، أو صورة كوكب، أو نجم، أو شكل الشمس أو القمر ونحو ذلك، فإن ذلك كله وما أشبهه يطلق عليه أنه صنم.
والوثن هو: ما عُبد من دون الله، مما ليس على هيئة صورة، فالقبر وثن، وليس بصنم، وكذلك المشهد، أعني: مشاهد القبور عند عبّادها، فهذه أوثان وليست بأصنام.
وقد يطلق على الصنم اسم الوثن، كما قال -جل وعلا- في قصة إبراهيم في صورة العنكبوت: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكا} [العنكبوت: 17] ولكن هذا يطلق على قلة.
وقال بعض أهل العلم: "هم عبدوا الأصنام، وعبدوا الأوثان جميعا، فصار ذكر الأصنام في بعض الآيات لعبادتهم الأصنام، وذكر الأوثان في بعض الآيات لعبادتهم الأوثان". والأول الأظهر في أنه قد يطلق على الصنم أنه وثن. ويدل على أن الوثن ما ليس على هيئة صورة قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: " اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد"(1). فدعا الله أن لا يجعل قبره وثناً، فدل ذلك على أن الوثن ما يعبد من دون الله مما ليس علي هيئة صورة.
----------------ـ
(1) أخرجه أحمد 2/246.
ص -52- قال -رحمه الله-: (وفي الحديث: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" فسئل عنه، فقال: "الرياء"(1). والرياء قسمان: رياء المسلم، ورياء المنافق.
فرياء المنافق: رياء في أصل الدين، يعني: أنه راءى بإظهار الإسلام، وأبطنَ الكفر، قال تعال: {يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء: 142] ورياء المسلم الموحِّد مثل: أن يُحسِّن صلاته من أجل نظر الرجل، أو أن يُحسِّن تلاوته لأجل التسميع، ليمدح، ويُسمَّع، لا لأجل التأثير.
فالرياء مشتق من الرؤية، فجهته الرؤية، ومن صوره: أن يحسن العبادة لأجل أن يرى من المتعبدين كأن يطيل في صلاته، أو يطيل في ركوعه، أو في سجوده، أو يقرأ في صلاته أكثر من العادة لأجل أن يرى ذلك منه، أو يقوم الليل لأجل أن يقول الناس عنه إنه يقوم الليل. فهذا كله شرك أصغر.
والشرك الأصغر-الذي هو الرياء- قد يكون محبطاً لأصل العمل الذي تعبد به، وقد يكون محبطا للزيادة التي زادها فيه.
فيكون محبطاً لأصل العمل الذي تعبد به إذا ابتدأ النية بالرياء، كمن يصلي الراتبة لأجل أن يرى أنه يصليها، وليست عنده رغبة في أن يصليها، لكن لما رأى أنه يرى صلاها، ولأجل أن يمدح لما يرى من نظر الناس إليه، فصلاته هذه حابطة ليس له فيها ثواب.
----------------ـ
(1) تقدم.
ص -53- لكن إذا عرض له الرياء في أثناء العبادة، فيكون ما زاده لأجل الرؤية باطلاً كما قال –عليه الصلاة والسلام-: "قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه"(1).
فالشاهد من حديث الباب: قوله –عليه الصلاة والسلام-: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" فهو أخوف الذنوب التي خافها النبي –صلى الله عليه وسلم- على أهل التوحيد؛ لأنهم ما داموا أهل توحيد فإنهم ليسوا من أهل الشرك الأكبر، فيكون أشد ما يُخاف عليهم هو الشرك الأصغر. والشرك الأصغر تارة يكون في النيات، وتارة يكون في الأقوال، وتارة يكون في الأعمال، يعني أنه يكون في القلب، وفي المقال، وفي الفعال، وسيأتي في هذا الكتاب بيان أصناف كل واحد من هذه الثلاثة.
فيدلُّ قوله –عليه الصلاة والسلام-: " أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" أنه أخوف الذنوب على هذه الأمة. لكن لماذا خافه النبي –صلى الله عليه وسلم- وكان أعظم الذنوب خوفاً؟
الجواب: أنه كان كذلك لأجل أثره، وهو أنه لا يُغفر، ولأجل أن الناس قد يغفلون عنه، والشيطان حريص على إيقاع أهل التوحيد في الشرك الأصغر، ووصمهم بالرياء في الأقوال، والأعمال، والنيات. وفرحه بذلك أعظم من فرحه بغيره من الذنوب.
----------------ـ
(1) أخرجه مسلم (2985).
ص -54- ثم بعد ذلك ساق حديث ابن مسعود فقال: (وعن ابن مسعود –رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من مات وهو يدعو من دون الله نداً، دخل النار".(1).
وجه الاستدلال منه: أنه قال: "من مات وهو يدعو من دون الله نداً" ودعوة الند من دون الله من الشرك الأكبر؛ لأن الدعاء عبادة، وهو من أعظم العبادات، فقد جاء في الحديث الصحيح: "الدعاء هو العبادة"(2) وفي معناه حديث أنس الذي في السنن، ولفظه: "الدعاء مخُّ العبادة"(3) فهو أعظم أنواع العبادة، فمن مات وهو يصرف هذه العبادة أو شيئاً منها لند من الأنداد فقد استوجب النار.
وقوله: "دخل النار" يعني كحال الكفار، فيكون خالدا فيها؛ لأن المسلم إذا وقع في الشرك الأكبر فإن يحبط عمله بذلك، ولو كان أصلح الصالحين، وقد قال –جل وعلا- لنبيه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 65-66] فالله عظيم، والله أكبر، وخلقه كلهم محتاجون إليه، وعبيد له –سبحانه- بمن فيهم أفضلهم، وهم الأنبياء والمرسلون، فلو فرض أن أشرك نبينا –صلى الله عليه وسلم- لحبط عمله، ولكان في الآخرة من
----------------ـ
(1) تقدم.
(2) أخرجه الترمذي (5/426) وأبو داود (1479) وابن ماجه (3828).
(3) أخرجه الترمذي (5/425).
ص -55- الخاسرين، أفلا يوجب أن يخاف من هو دونه ممن يدعي الصلاح والعلم من الشرك؟!! بل قد شاع في هذه الأمة أن بعض المنتسبين إلى العلم يدعو إلى الشرك ويحضُّ عليه، ويُكرِّه ويبغِّض في التوحيد وحال هؤلاء، كما قال الله –جل وعلا- عن أسلافهم: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45].
فوجه الاستدلال ظاهر _إذاً- في قوله صلى الله عليه وسلم: "من مات، وهو يدعو من الله نداً دخل النار" وأنه يوجب الخوف؛ لأن قصد المسلم، بل قصد العاقل أن يكون ناجياً من النار، ومتعرِّضاً لثواب الله في الجنة.
ولفظ: "من دون الله" يكثر وروده في القرآن والسنة، ويراد به عند علماء التفسير، وعلماء التحقيق شيئان:
1- أن تأتي بمعنى (مع) فيكون معنى "من دون الله" أي مع الله، وعبَّر عن المعية بلفظ: "من دون الله" لأن كل ما دُعي مع الله، فهو دون الله –جل وعلا- فهم دونه والله –جل وعلا- هو الأكبر، وهو الأعظم، وفي هذا دليل على بشاعة عملهم.
2- أن تأتي بمعني (غير) فيكون معنى "دون الله" أي يدعو إلهاً غير الله، يعني أنه لم يعبد الله، وأشرك معه غيره، بل دعا غيره استقلالاً، فشملت "من دون الله" الحالين: من دعا الله ودعا غيره، ومن دعا غير الله استقلالاً.
ص -56- قال (رواه البخاري. ولمسلم عن جابر –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار"(1). تقدم قريبا أن قوله: "لا يشرك به شيئاً" فيه نوعان من العموم: عموم في أنواع الشرك ويدل عليه وقوع النكرة في سياق النفي؛ لأن لفظة: "يشرك" نكرة، وعموم –أيضاً- في المتَوجَّه إليهم، وهم المُشْرَك بهم، كما يدل عليه قوله: "شيئاً" لأنه –أيضاَ- نكرة في سياق النفي.
فمعنى قوله: "به شيئاً" أي لم يتوجه بالعبادة لأيِّ أحد، لا لملك، ولا لنبي، ولا لصالح، ولا لجني، ولا لطالح، ولا لحجر، ولا لشجر، ولا غير ذلك.
قوله: "دخل الجنة" يعني: أن الله –جل وعلا- وعده بدخول الجنة برحمته سبحانه، وتفضله، وبوعده الصادق الذي لا يُخلَف.
قوله: "ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار" أي أنَّ كُلَّ مشركٍ متوعَّدٌ بالنار، ووجه الدلالة مستقيم مع استدلال الشيخ بالآية؛ لأن من لقي الله وهو على شيء من الشرك الأكبر، أو الأصغر، أو الخفي فإنه سينال العقوبة والعذاب في النار –والعياذ بالله-.
قوله: "ومن لقيه يشرك به شيئاً" فيه عموم –أيضاً- كما ذكرنا؛ لأن (من) هنا شرطية، و (يشرك) نكرة، فتكون عامة لأنواع الشرك، و(شيئاً) عامة في المتجَّه إليهم.
----------------ـ
(1) تقدم.
ص -57- فإن قيل: علام يدل قوله: "من لقيه يشرك به شيئاً دخل النار"؟ هل يدل على أن دخول أبدي، أو أمدي؟
فالجواب: أن ذلك بحسب نوع الشرك، فإن كان الشرك أكبر ومات عليه فإنه يدخل النار دخولاً أبدياً، وإن كان الشرك أصغر، أو خفياً فإنه يكون متوعداً بالنار، أي: سيدخل النار ويخرج منها؛ لأنه من أهل التوحيد.
وهل يدخل الشرك الأصغر الموازنة أو لا؟ تقدم الجواب أن الشرك الأصغر يدخل في موازنة الحسنات والسيئات، وأنه إذا رجحت حسناته فإنه لا يعذب على الشرك الأصغر. لكن هذا ليس في حق كل أحد من الخلق، فإن منهم من يعذب على الشرك الأصغر؛ لأن الموازنة بين الحسنات والسيئات ليست شاملة لكل الخلق، وليست شاملة –أيضاً- لكل الذنوب، بل قد يكون من الذنوب ما يستوجب النار، ولو رجحت الحسنات على السيئات؛ فإنه يستوجب الجنة. ولكن لا بد من أن يطهر في النار. وهذا دليل على وجوب الخوف من الشرك؛ لأن قوله: "من لقيه يشرك به شيئاً دخل النار" يشمل الشرك الأكبر والأصغر والخفي، فعلى المرء أن يطلب الهرب من الشرك بجميع أنواعه، ويسعى إلى ذلك جهده.
وعلى المرء –أيضاً- أن يستعيذ بالله –جل وعلا- من الشرك الأصغر والخفي بقوله: "اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه، وأستغفرك مما لا أعلم"(1). لأنه إذا علم فأشرك، فإنه سيترتب الأثر الذي ذكرناه، وهو عدم المغفرة، ففي هذا الدعاء الذي علمناه رسولنا –عليه الصلاة والسلام-
----------------ـ
(1) أخرجه أحمد (19606) وابن أبي شيبة 10/337-338 بنحو من حديث أبي موسى، وقال الهيثمي في "المجمع"10/223: رواه أحمد والطبراني في "الكبير" و"الأوسط" ورجال أحمد رجال الصحيح غير أبي علي، ووثقه ابن حبان).
ص -58- التفريق بين الشرك الأصغر مع العلم، والشرك الأصغر مع الجهل؛ ولذا قال: " أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه" لأن أمر الشرك الأصغر مع العلم عظيم فيجب أن يستعيذ المر بالله من أن يشرك به شركاً أصغر، فما هو أعلى منه من باب أولى، وهو يعلم.
ثم قال: " وأستغفرك مما لا أعلم" قد يقع في الشرك الأصغر أو الخفي، وهو لا يعلم، ويظهر شيء من ذلك على فلتات لسانه، وهو لا يقصد، ولمثل ذلك شُرع هذا الدعاء.
فهذا يدل على أن الشرك أمره عظيم، فلا يتهاوننَّ أحد بهذا الأمر؛ لأن من تهاون بالشرك وبالتوحيد، فإنه يكون متهاوناً بأصل دين الإسلام، بل يكون متهاوناً بالذي دعا إليه النبي –صلى الله عليه وسلم- في مكة سنين عدداً، بل يكون متهاوناً بدعوة الأنبياء والمرسلين؛ فإنهم اجتمعوا على شيء واحد، وهو العقيدة وتوحيد العبادة والربوبية والأسماء والصفات، وأما الشرائع فشتى.
لهذا وجب عليك الحذر كل الحذر من الشرك وأنواعه، وأن تتعلم ضده وأن تتعلم –أيضاً- أفراد الشرك، وأفراد التوحيد، وبذلك يتم العلم، ويستقيم العمل. وأما تعلّم ذلك على وجه الإجمال، فهذا كما يقال: نحن على الفطرة، لكن إذا أتت الأفراد فربما رأيت بعض الناس يخوضون في بعض الأقوال أو الأعمال التي هي من جنس الشرك، وهم لا يشعرون؛ وذلك لعدم خوفهم وهربهم من الشرك، نسأل الله –جل وعلا- العفو والعافية.
فاحرص –إذاً- على تعلّم هذا الكتاب ومدارسته، وعلى كثرة مذاكرته، وفهم ما فيه من الحجج والبينات؛ لأنه أفضل ما تودعه صدرك، بعد كتاب الله –جل وعلا- وسنة نبيه –صلى الله عليه وسلم- فلعلّه أن يكون –إن شاء الله- سبباً عظيماً من أسباب النجاة والفلاح